من اليوم الأوّل لإطلاقها، كانت المبادرة الفرنسية مصابة بعطب بنيوي. وضع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه في خانة ليست له، حتى استُدرِجَ كرئيس لإحدى أهم الدول الأوروبية للبحث في وزارة لبنانية من هنا وحصّة من هناك. المسار السياسي العام للمبادرة كان فيه الكثير من الخلل. ناقض ماكرون نفسه أكثر من مرّة بين زيارتيه. وفي الزيارة الثانية راهن على حزب الله وأعطاه كثيراً، وبعد الدخول في مشاورات تشكيل الحكومة، وجد الحزب أنّ ماكرون انقلب على ما قاله في بيروت. ووجد آخرون أنّ الحزب انقلب على ماكرون. وكان هناك رأي بأنّ رؤساء الحكومات الأربعة كان يجب أن يسمّوا نواف سلام، كي يكون القبول بمصطفى أديب وطبيعة الحكومة هو التسوية، وليس وزارة المال أو الثلث المعطّل.
إقرأ أيضاً: تمديد مهلة التأليف إلى الخميس.. يعيد إنعاش المبادرة الفرنسية
في الخلاصة، أُصيبت مبادرة باريس بمقتل، على وقع ضربات أميركية وإيرانية. لم يكن من الوارد أن تسلّم واشنطن لباريس بإدارة الملف اللبناني وتسيّده، وهي التي لا تريد لفرنسا أن تلعب دوراً في أوروبا، ولم يكن وارداً بالنسبة إلى واشنطن أن يعمل ماكرون على التواصل بهذا الشكل مع حزب الله وتعويمه.
إيران من جهتها لم تكن في وارد تقديم تنازل للفرنسيين، وإذا كان لا بد من تقديم التنازل، فيجب تقديمه بمفاوضات مع أميركا. ولا يمكن لطهران أن تتنازل لباريس ما لم تقدّمه لواشنطن. وبعيد ساعات على تأجيل المهلة الفرنسية للأفرقاء اللبنانيين، برزت مواقف أميركية واضحة على لسان وزير الخارجية مايك بومبيو، الذي كتب مقالاً في صحيفة “لو فيغاور”.
في مقابل التشدّد الأميركي، كان هناك تشدّد إيراني مع الثنائي الشيعي في لبنان للحفاظ على المكتسبات السياسية التي تحقّقت. لم يُبدِ الثنائي أيّ استعداد للتنازل عن وزارة المالية مع تمسك حزب الله منفرداً باختيار وزرائه بنفسه
لم يختر بومبيو “الفيغارو” عن عبث، بل هي الصحيفة التي كتب فيها الصحافي جورج مالبرونو عن رؤية ماكرون لحزب الله، واستعرض ماكرون في توجيهه توبيخاً قاسياً للصحافي الفرنسي أمام كاميرات الصحافيين واللبنانيين في قصر الصنوبر البيروتي. كذلك، فإنّ موقف بومبيو كان واضحاً بأنّه لا يمكن الرهان على سياسة استرضاء إيران وحلفائها. ودعا فرنسا إلى تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية، من على صفحات “لوفيغارو”.
كان الموقف الاميركي واضحاً في الابتعاد عن المبادرة الفرنسية، التي اعترضتها أفخاخ كثيرة. صباح الثلاثاء، أطلق بومبيو مواقف جديدة كانت أوضح، وقال إن بلاده ستمنع إيران من تزويد حزب الله بالأسلحة، وهذا سيؤثر سلباً في مبادرة ماكرون، وقد يفشل جهوده، قال هذا في مقابلة على إذاعة فرنسية، بعد المقال. في رسالة أميركية بالبريد الفرنسي وجهتها بيروت.
في مقابل التشدّد الأميركي، كان هناك تشدّد إيراني مع الثنائي الشيعي في لبنان للحفاظ على المكتسبات السياسية التي تحقّقت. لم يُبدِ الثنائي أيّ استعداد للتنازل عن وزارة المالية مع تمسك حزب الله منفرداً باختيار وزرائه بنفسه.
لم تكن فرنسا في وارد التنازل لصالح الحزب، على الرغم من حصول مفاوضات جدّية بين الطرفين طيلة يوم الثلاثاء، حتى حُكي عن احتمال زيارة رئيس المخابرات الفرنسية برنار إيمييه إلى بيروت. لكنّ مصادر فرنسية عادت وأكدت أن لا زيارة لإيمييه إلى بيروت لأن ليس هناك ما يستدعي حصولها. كانت هذه إشارة إلى وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، وتوقف المبادرة الفرنسية، بسبب عدم اتفاق الأفرقاء اللبنانيين. فيما كان الحزب يعتبر أنّ باريس لن تخسر مبادرتها وستدافع عنها بتقديم تنازل له. لكنّه كان مخطئاً في القراءة، لأن التنازل الفرنسي يعني مزيداً من التصعيد الأميركي، والفشل في إدارة ملف كالملف اللبناني سيكون له تداعياته على الموقف الفرنسي في الشرق الأوسط وفي الداخل الفرنسي أيضاً.
لخيار الثاني أمام أديب، فهو أن يلتقي عون بدون تسليمه تشكيلته الحكومية، ويعلن بعد اللقاء اعتذاره عن التأليف. وعندها الانهيار الكبير على رؤوس كلّ اللبنانيين
الطرف الداعم لمصطفى أديب، كان يعتبر أنّه لا يمكن تقديم أيّ تنازل لصالح الحزب في تسمية الوزراء الشيعة، حتّى لو وافقت فرنسا. ولذا، لن يسير رؤساء الحكومات بأيّ تسوية تحصل بين فرنسا والحزب. تجمّدت المبادرة الفرنسية نهائياً، فيما أصبح رئيس الجمهورية ميشال عون في ورطة أكبر، ويله عهده، وويله تحالفه مع حزب الله، وويله العقوبات التي ستأتي والصعوبات التي ستتفاقم.
أخطأ حزب الله في تعاطيه مع المبادرة الفرنسية. إذ تمسّك بعقليته اللبنانية البحتة، وظنّ أنه جعل فرنسا كلها أسيرة مطالبه وأسيرة المبادرة كي لا تفشل. بينما باريس كانت تتعاطى مع المبادرة وفق مبدأ أنّ الحزب يحتاج إلى فرصة، ولبنان أيضاً، وهي أعطتهم هذه الفرصة، لكنهم لم يستفيدوا منها.
النقطة الأخيرة التي يمكن أن تنهي المبادرة الفرنسية نهائياً، هي الخطوة التي سيقدم عليها الرئيس المكلف مصطفى أديب. فهو بات أمام خيارين، إما الإصرار على المواجهة والذهاب إلى قصر بعبدا حاملاً تشكيلة حكومية تضمّ 14 وزيراً من المستقلين، ويضعها بين يدي رئيس الجمهورية فتقع عليه مسؤولية توقيعها أو رفضها. فإذا وقعها تُحال إلى المجلس النيابي، وهناك يخوض الثنائي الشيعي معركة كبرى حولها، إما في محاولة لتعطيل الجلسة أو بحجب الثقة عنها. وإمّا أن يفعل الضغط الأميركي فعله على بعض حلفاء الحزب ويصوّتوا لصالح الحكومة، فتكون المواجهة معها في الشارع وبأحداث أمنية متنقّلة. أما الخيار الثاني أمام أديب، فهو أن يلتقي عون بدون تسليمه تشكيلته الحكومية، ويعلن بعد اللقاء اعتذاره عن التأليف. وعندها الانهيار الكبير على رؤوس كلّ اللبنانيين..