بدأت أولى معالم غزو وباء كورونا إلى السجون اللبنانية بالظهور وسط تكتّم وفوضى في مقاربة هذا التطوّر المتوقّع، ما أعاد التذكير بموجة الدّعاية التي سادت مع بداية ظهور الوباء عندما شاع الحديث عن إجراءاتٍ لتسريع المحاكمات والعمل على إخراج السجناء ذوي الحالات الإنسانية المبرّرة قانوناً وأخلاقاً، لتنتهي تلك الهمروجة كما بدأت، بتجاهل مطلب العفو العام، نتيجة الإصرار الكيدي لمن يسيطر في مواقع القرار على إبقاء السجناء رهينة الابتزاز السياسي المتقلّب مع المراحل المتعاقبة التي تعصف بالبلد.
إقرأ أيضاً: سجناء روميّة يصرخون: أطعمونا جائعون
دخل لبنان مرحلة سياسية مختلفة مع المبادرة الفرنسية التي تفرض بنوداً إصلاحية تعتبرها أولوية لإخراج لبنان من المأزق المالي الخطر الذي يتخبّط به. لكن غاب عن بال من حضّروا تلك المبادرة، وجود آلاف السجناء الذين يواجهون الموت والجوع في السجون اللبنانية بسبب غزو الفساد السياسي للقضاء المعني، ما يوجب استدراك هذه القضية وضمّها إلى البنود العاجلة التي تحتاج إلى مبادرة تنفيذية تتخطّى ألاعيب الطبقة السياسية التي حوّلتها إلى أحد أبشع أبواب الاستغلال وسوء استعمال النفوذ.
“المفكرة القانونية” أوضحت أنّ السجناء موجودون في حالةٍ من “التجمّع القسريّ” بظروفٍ حياتيّة سيئة، كون نسبة الاكتظاظ تصل إلى 185% من قدرة الاستيعاب القانوني
استطاعت السلطة الحدّ من اندفاعة المبادرات الجادّة لمعالجة مشكلة الاكتظاظ، مثل مبادرة النائب نهاد المشنوق ونقيب المحامين في بيروت ملحم خلف، من خلال مناورات متناقضة حول قانون العفو العام، فضاعت البوصلة، ولم يعد هناك ما يمكن ترقيعه في قضيةٍ تهديد حياة السجناء بكورونا. فالسلطة تعلم أنّه سيقتحم السجون ولو بعد حين، ولكنها لم تتخذ ما يلزم من خطوات. فالسجون لم تصلها الكمامات ولا مواد التعقيم، ومن المتعذّر عملياً تطبيق شرط التباعد الاجتماعي، نظراً للكثافة والاكتظاظ.
تكتفي السلطة بعرض الحال، فيعترف وزير الصحة حمد حسن في تصريح بتاريخ 12 أيلول الجاري، بوجود “إصابات في سجن رومية من القوى الأمنية وعدد محدود جداَ من الموقوفين”. ويتخوّف رئيس لجنة الصحة البرلمانية عاصم عراجي من فتـْكِ الوباء بالسجناء الذين “يتكوّمون بالمئات في عنابر مفتوحة، بمعدل 200 سجين في العنبر الواحد”. وهناك حوالي 9500 موقوف داخل أماكن الاحتجاز ينتظرون محاكماتهم، حسب إحصاء “المفكرة القانونية”، يفاقم أوضاعهم إطالة أمد الاحتجاز وعدم الالتزام بالمهل القانونية للتوقيف، والتأخير في المحاكمات.
“المفكرة القانونية” أوضحت أنّ السجناء موجودون في حالةٍ من “التجمّع القسريّ” بظروفٍ حياتيّة سيئة، كون نسبة الاكتظاظ تصل إلى 185% من قدرة الاستيعاب القانوني. فعدد كبير من السجناء ينامون إلى جانب بعضهم البعض “رأس وكعب” في السجون الكبيرة مثل رومية والقبة وزحلة. أما المسألة الأخطر، فهي أنّ هناك أعداداً كبيرة من السجناء يعانون من الأمراض المزمنة، مثل السكري والضغط وأمراض القلب، ما يجعلهم عرضة للموت بوباء كورونا، إضافة إلى المخاطر المحدقة ببقية السجناء، في ظلّ غياب العناية الطبية.
نشرت صفحات الأهالي مقاطعَ مصوّرةً تكشف الأوضاع المأسوية للسجناء داخل العنابر، وأخرى لسيارة إسعاف ينقل طاقمها سجناء ظهرت عليهم أعراض المرض، وحذّر “المرصد اللبناني لحقوق السجناء” من هشاشة الوضع الصحي في “المبنى ب” خصوصاً، حيث لا تتوفّر أجهزة أوكسجين أو حتى كمامات أو معقّمات، وتمّ رصد حالة التراخي التي يمارسها القائمون على السجن لجهة عدم التزامهم بإجراءات السلامة العامة أثناء اختلاطهم بالسجناء. وعليه، فإنّ المرصد دعا وزارة الصحة ونقابة المحامين إلى أخذ الأخبار الواردة من رومية على محمل الجدّ.
من سوء طالع السجناء، كما هو سوء طالع لبنان، أنّ السلطة القائمة هي الأسوأ عبر تاريخه. فالمواطنون هم أعداؤها الضمنيون والمعلنون، سواء كانوا أحراراً أو سجناء
اعتبرت “المفكرة القانونية” أنّه مع تفشّي كورونا في السجون، فإنّ “الحقّ في الحياة يغلب على ضرورة العقاب”، وأنّ “الاكتظاظ في السجون يضرّ بالمجتمع ككلّ”، و”سيؤدّي إلى ضغط هائل على القطاع الصحي، فهؤلاء يواجهون ما يوازي الحكم بالإعدامات الميدانية نظراً لاستحالة تطويق الوباء إذا انتشر في السجون”.
لا يمكن مقاربة واقع السجون اليوم على الطريقة المعروفة للسلطة من المماطلة، في ظلّ وباء كورونا وتفاقم الأزمة المعيشية واستحالة قدرة الأهالي على تأمين مستلزمات أبنائهم الأساسية في السجون، ما يعني أنّ السجناء يواجهون خطر الوباء والجوع في الوقت نفسه. وما ينبغي العمل عليه، جعل ملف العفو العام جزءًا من الإصلاحات العاجلة التي يفترض إتمامها في عملية الإنقاذ المفترضة من خلال المبادرات الدولية، رغماً عن القوى السياسية التي فشلت في هذه القضية كما فشلت في غيرها، لأنّ تجاهل المخاطر المحدقة بآلاف السجناء سيؤدي إلى كارثة تصل إلى حدود الجريمة ضدّ الإنسانية، وهنا يأتي دور الثائرين والنخب والنقابات الحرّة لطرح المسألة من هذا الجانب وفرض العفو العام كأولوية إصلاحية عاجلة.
من سوء طالع السجناء، كما هو سوء طالع لبنان، أنّ السلطة القائمة هي الأسوأ عبر تاريخه. فالمواطنون هم أعداؤها الضمنيون والمعلنون، سواء كانوا أحراراً أو سجناء. لأنّ الجالسين على الكراسي يستمتعون بجنون العظمة فوق ركام الوطن، ولن يوقف استمتاعهم بمغانم السلطة وفاة عشرات السجناء. فقد سبقهم ضحايا كثر، آخرهم ضحايا تفجير مرفأ بيروت، إلاّ إذا فُرض الحلّ على هذه السلطة بالإكراه، فعندئذٍ يمكن وقف هذه المقتَلة المتوقعة.