يفيد تاريخ الاحتكاكات والصدامات العنفية بين الأحزاب اللبنانية، سواء ضمن المجموعة الطائفية الواحدة أو بين بيئات طائفية مختلفة، أنّ التفسير الرئيس لتلك الصدامات ليس تفسيراً أمنياً، إنمّا هو سياسي بالدرجة الأولى. إذ إنّ أيّ صدام أمني مهما كان حجمه، بين مجموعتين حزبيتين أو أكثر، يأتي ضمن سياق سياسي محدّد: فإمّا أن يكون نتيجة حتمية لهذا السياق، وإمّا يكون إحدى محطّاته. وهذا ما بدا واضحاً في الاحتكاك بين “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” في ميرنا الشالوحي ليل الإثنين – الثلاثاء.
إقرأ أيضاً: باسيل في مؤتمر الاستسلام: دخيل عرضكم
كثيرة هي الدلالات السياسيّة والأمنية لما حدث قرب المركز الرئيسي لـ “التيار الوطني الحر”. فهو أوّل صدام بهذا الحجم بين التيار و”القوّات اللبنانية” منذ إبرام المصالحة بينهما في حزيران 2015. كذلك فهي المرّة الأولّى التي يُظهر فيها “التيار الوطني الحر” سلاحه بهذا الشكل العلني و”الممنهج”، بما يؤشّر وعلى نحوٍ أوضح من ذي قبل إلى تحفيزه بنيته الميليشياوية في الآونة الأخيرة ولأهداف سياسيّة. وإن كان تقدير حجم هذه البنية وفاعليتها يحتاج إلى معلومات يفترض أن تملكها الأجهزة الأمنية التي حصل إطلاق النار من قبل عناصر التيار على مرأى منها ليل الإثنين.
لا شكّ بأنّ فاجعة المرفأ الإجرامية أحدثت بتوقيتها وجغرافيتها صدمة في الوعي السياسي عند المسيحيين بالنظر إلى أنّ الضحايا المسيحيين في الانفجار هم أكثرية، كما أنّ المناطق المتضرّرة ذات غالبية سكانية مسيحية. وقد توجّه هذا الوعي الذي كان في الأصل محفّزاً ضدّ السلطة السياسية بفعل الأزمة المالية والاقتصادية وانعكاساتها على حياة اللبنانيين، بصورة أوضح ضدّ رئيس الجمهورية بوصفه رأس السلطة وممثّل المسيحيين في النظام. لكن أيضاً فإنّ اشتداد النقمة الشعبية المسيحية ضدّ العهد و”التيار الوطني الحر”، خصوصاً بعد فاجعة 4 آب، يأتي كردّة فعل بمفعول رجعي ضدّ السردية العونية عن “الرئيس القوي”. إذ تبيّن للرأي العام المسيحي الذي راهن إلى هذا الحدّ أو ذاك على العهد، أنّ رهانه كان خاطئاً، وقد آلت البلاد في ظلّه إلى أوضاع كارثية فاقمها انفجار المرفأ.
جبران باسيل تفطّن باكراً للارتدادات السياسيّة للانفجار المذكور على العهد والتيار، لا على المستوى السياسي العام بل داخل التيار نفسه في ظلّ ازدياد احتمالات الانفكاك عنه من قِبل محازبيه وأنصاره
هذا كلّه جعل القوى السياسية المسيحية، وعلى وجه الخصوص “التيار الوطني الحر”، تعيد ترتيب أولوياتها على قاعدة التغيّرات الجذرية التي أحدثها تفجير 4 آب في الوعي السياسي لدى المسيحيين، والتي عبّرت عنها صيحات أهالي الضحايا والمواطنين المتضررّين ضدّ العهد وتياره السياسي، بحيث لم يجرؤ أيّ من مسؤوليه على زيارة الجغرافيا المتضرّرة. لكن تلك النقمة الشعبية ضدّ رئيس الجمهورية و”الوطني الحرّ”، ما أعطت إشارات، في المقابل، إلى تنامي نفوذ الأحزاب المسيحية المنافسة لهما.
والحال، فإنّ جبران باسيل تفطّن باكراً للارتدادات السياسيّة للانفجار المذكور على العهد والتيار، لا على المستوى السياسي العام بل داخل التيار نفسه في ظلّ ازدياد احتمالات الانفكاك عنه من قِبل محازبيه وأنصاره. وهي احتمالات كانت قد بدأت تظهر منذ انتفاضة “17 تشرين”، لكنّ انفجار المرفأ بدا كأنّه يدفع بها إلى أقصاها.
لذلك سارع جبران باسيل في مؤتمره الصحافي في 17 آب الماضي إلى مخاطبة قاعدته الحزبية و”البيئة العونية” في محاولة جديدة قديمة منه لتبرير سياساته أمامها من خلال رمي المسؤولية عن ملفّات أساسية كانت في حوزته كالكهرباء والطاقة على خصومه السياسيين، وللدفاع عن سياسات العهد في مكافحة الفساد. سياسات تجابهها، بحسب روايته، الطبقة السياسية المتورّطة في الفساد. إلّا أنّ النقطة السياسية الأبرز التي حاول الرجل تظهيرها في مؤتمره الصحافي ذاك، كانت إبداءه استعداداً “جنينياً” للتمايز عن “حزب الله”. لكنّه تمايز بقي محسوباً تحت سقف الرهان على أنّ التسوية الأميركية – الإيرانية آتية لا محال. لذا، لا مصلحة سياسية للتيار بزعزعة تفاهمه مع “حزب الله” حتّى لو وصل الانزعاج منه إلى ميرنا الشالوحي، كما عبّرت عن ذلك أخيراً مواقف نوّاب وكوادر في التيار.
الوسط السياسي المسيحي دخل بعد تفجير المرفأ في مرحلة إعادة تقييم الخيارات كلّ بحسب حساباته. وهذا ما يظهر جليّا في خطاب وسلوك “التيار الوطني الحرّ”، لكن أيضاً عند سائر الأحزاب المسيحية، كـ”القوات” و”الكتائب”، وحتّى بالنسبة إلى البطريركية المارونية
غير أنّ التمايز الأوّلي الذي حاول باسيل إظهاره في 16 آب، بدا أكثر وضوحاً في مؤتمره الصحافي الأحد الماضي، حين ظهّر، على وقع العقوبات الأميركية، ثلاث نقاط تمايز مع الحزب: ترسيم الحدود، مداورة الحقائب الوزارية وارتباطها بالمثالثة، والحياد. وهي ثلاث نقاط أساسية جدّاً بالنسبة لحزب الله. لكن في المقابل، فإنّ المسارات المرتبكة لتأليف الحكومة أظهرت أنّ تفاهم “مار مخايل” لا يزال يتمتع بأسباب الاستمرار، خصوصاً لجهة اتفاق التيار والحزب و”حركة أمل” على إفشال ما وصف بـ”الانقلاب على نتائج الانتخابات”.
لكن وبالرغم من أنّ تمايز باسيل عن الحزب يُردّ في جزء أساسي منه إلى هول العقوبات الأميركية المرتقبة، فهو ينمّ أيضاً عن محاولة باسيلية لمخاطبة متقدمّة لقاعدته وجمهوره المتململ ممّا وصلت إليه الأحوال السياسية للعهد محلياً وخارجياً. وهي أحوال، يبدو أكثر من ذي قبل، أنّ تحالف العهد مع الحزب قد فرضها، وذلك بالنظر إلى التشدّد الأميركي إزاء الحزب، والذي ينعكس على البلد عموماً وعلى حلفائه بشكل خاص، وها هي العقوبات أبلغ دليل على ذلك.
وتمايز باسيل عن حليفه الأكبر وأّيا تكن حدوده، ينمّ عن بداية مراجعة للخيارات الكبرى التي اتخذها التيار منذ “تفاهم مار مخايل”. وهي مراجعة لا يمكن تلمّس مآلاتها من الآن، لكن الأكيد أنّ توقيتها يعكس أهميّتها واحتمالاتها. ولذلك، فقد صوّب رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع في خطابه في 6 أيلول سهامه على هذا التفاهم، في محاولة منه للدلالة على سوء خيارات “التيار الوطني الحرّ”. كما أنّ جعجع عندما تناول موضوع “اتفاق معراب” فقد فعل ذلك من باب طعن التيار به وتفويته على العهد “رافعة سياسية شعبية وسياسية”، وهذا أيضاً تشكيك قواتي بخيارات التيار.
في المحصلة، فإنّ الوسط السياسي المسيحي دخل بعد تفجير المرفأ في مرحلة إعادة تقييم الخيارات كلّ بحسب حساباته. وهذا ما يظهر جليّا في خطاب وسلوك “التيار الوطني الحرّ”، لكن أيضاً عند سائر الأحزاب المسيحية، كـ”القوات” و”الكتائب”، وحتّى بالنسبة إلى البطريركية المارونية. وفي هذا السياق، يحاول التيار شدّ عصبية قاعدته بالهجوم على “القوات” والثورة، بينما يحاول “القوات” الاستفادة من وهن التيار لاستقطاب الشرائح المسيحية المتململة منه مهاجماً بدوره الثورة خصمه في هذا الاستقطاب. عند هذا التقاطع بالذات، وقع إشكال ميرنا الشالوحي الذي بدا أنّ التيار كان يتهيأ له في محاولة للردّ على استعراض “القوات” في الجميزة. وهو استعراض كان يحاول أساساً الاستثمار في حالة الصدمة المسيحية ما بعد انفجار المرفأ، من خلال التذكير بمكانة “القوّات” داخل “المجتمع المسيحي” وقت الأزمات الكبرى. لكن باسيل أراد أن يظهر للمجتمع نفسه أنّه يملك هو الآخر ميليشيا!