داعش في كفتون، داعش في المرفأ، داعش في الشمال، داعش في المخيمات، داعش في المناطق الحدودية… داعش في كلّ مكان، وليس في أيّ مكان. هذه ليست فلسفة، بل مشهد سوريالياً نعيشه في لبنان منذ سنوات، حتى بات تنظيم داعش هو الظلّ الخفي لكلّ خضّة أمنية، والحاضر الغائب “غبّ الطلب”.
إقرأ أيضاً: نصرالله يفتتح الموسم الجديد من عروض “داعش”
حادثة كفتون وربطها بتوقيف عناصر خلية إرهابية مرتبطة بتنظيم داعش وأمير الخلية المتواري عن الأنظار خالد التلاوي “الذي استُخدمت سيارته من قبل منفّذي الجريمة”، أعادت داعش إلى الواجهة من جديد، في خضمّ جدل بين من يجد في داعش خلايا يجري إيقاظها لأسباب وأهداف سياسية مرتبطة بالممانعة و”حشرتها”، وبين من يرى فيه خلايا تربط عقارب يقظتها بأوامر وظروف مرتبطة بحلم الإمارة الآفل في المنطقة.
يرى وزير الداخلية الأسبق مروان شربل أنّ داعش تضاءلت قدرته، ولم تعد كما قبل، لكن لا يزال هناك عناصر وخلايا تابعة له هنا وهناك، وإن كانت تتمتع هذه العناصر بنشاط أضعف، وذلك لأن بنية داعش التحتية “انهارت” بعد مقتل البغدادي في سوريا، وتقلّص نفوذ التنظيم في المنطقة وهزيمته في سوريا والعراق.
عودة داعش إلى دائرة الضوء فجأة مرتبطة بالأوامر التي يتلقّونها “سواء كانت داخلية أم خارجية”، التي يجري تحديدها وفقاً للظرف السياسي
ويؤكد شربل في حديثه لـ”أساس” أنّ “الخطر يبقى قائماً لأنّه لا يمكن القول إنّ الإرهاب انتهى في المنطقة، وإن كان في لبنان أقلّ بكثير. لكن يجب الاستمرار بالمتابعة والتنسيق بين الأجهزة الأمنية داخلياً، والتنسيق مع الخارج أيضاً، لاسيما في ما يخصّ بعض الموقوفين المشتبه بهم، الذين أُخلي سبيلهم لعدم كفاية الأدلة”. لأن هؤلاء يبقى لديهم الفكر المتشدّد، وينخرطون في الحياة الطبيعية “ومن الصعب أن يتخلّوا عن تفكيرهم، بدليل أنّ التلاوي مثلاً بقي يحمل حقده العقائدي ودرّب عناصر على هذا الحقد، بالرغم من أنّه كان موقوفاً في سجن رومية وأُفرج عنه قبل سنوات”. ويرى أنّ عودة داعش إلى دائرة الضوء فجأة مرتبطة بالأوامر التي يتلقّونها “سواء كانت داخلية أم خارجية”، التي يجري تحديدها وفقاً للظرف السياسي، مرجّحاً أنّ نشاطهم الحالي قد يكون مهيئاً لعمليات اغتيال أكثر من أيّ عمليات أخرى.
لكن ماذا يقول المعتقلون بتهم الإرهاب أنفسهم؟
الشيخ الثلاثيني (باسم ج.) وهو خطيب أحد مساجد طرابلس تم توقيفه قبل 4 أعوام بتهمة الإرهاب، وأمضى سنة كاملة في سجن رومية قبل أن يخرج بريئاً من التهم الموجّهة ضدّه. يؤكد في حديثه لـ”أساس” أنّ الإرهاب والتعصّب والتشدّد “إنّما يكتسبه السجين في سجون لبنان وليس خارجها، لأن المظلومية التي يتعرّض لها المعتقل قد تسهم في خلق حالة نفسية صعبة تدفعه إلى تشرّب بعض الأفكار العقائدية الخاطئة، لا سيما إن كان مظلوماً، وليس على قدرٍ كافٍ من العلم والمعرفة”.
وعن سبب الاعتقال، يؤكد (باسم ج.) أنّه حتى اليوم لا يعرف سبب الاشتباه به، لكنّ “فاعلي الخير كثُر (ويقصد هنا المخبرين)، ويكفي أن يكون لك رأي في الأزمة السورية كي تصبح إرهابياً”. ويسأل: “كيف لبريء أن يبقى لأشهر وسنوات من دون تحقيق ولا محاكمة، ويعيش أكبر إكراه على وجه الأرض عندما يرى أهله يُذلّون على الأبواب وعلى الطرقات ونقاط التفتيش، وهو ينام في غرفة فيها أكثر من 10 أشخاص، ولا تتسع لأكثر من شخصين، وغير مؤهلة ليسكنها البشر”. ويتابع: “بعد اتهامات بالقتل والتفجير والإجرام على مدى أشهر. وربما سنوات، نعم قد يتبنّى أحدهم هذه الاعترافات ليرتاح، وربما ليتخذ هذا الطريق فعلياً”. وينقل لنا مشاعر “الحقد على الدولة” التي تشكّلت لديه بعد كلّ هذا الظلم، ويقول: “بقيت على فترة بعد إعلان براءتي لا أطيق أن أرى شقيقي، لأنّه عسكريّ، وهذه البدلة هي التي ظلمتني، ولو أنّني لا أتمتع بالوعي الكافي، لكنتُ تحوّلتُ إلى إرهابي”. ويضيف: “ليحاربوا الفقر والبطالة والظلم وسيختفي الإرهاب. فما يحصل مأساة حقيقية، وأثناء توقيفي كان هناك 320 موقوفاً بتهمة الإرهاب، و50 متورّطاً منهم فقط”.
الإرهاب والتعصّب والتشدّد إنّما يكتسبه السجين في سجون لبنان وليس خارجها، لأن المظلومية التي يتعرّض لها المعتقل قد تسهم في خلق حالة نفسية صعبة تدفعه إلى تشرّب بعض الأفكار العقائدية الخاطئة
رئيسة جمعية إصلاح ذات البين المحامية مها فتحة التي كانت على تماس مع قضايا عديدة لموقوفين إسلاميين، تؤكد على كلام (باسم ج.)، وترى أنّ هناك تضخيماً لدور داعش في لبنان، وأن لا بيئة حاضنة له، وحتى المتورّطين منهم هم “دمى على مسرح، وماريونيت يُستخدمون لغايات سياسية، وهم في معظمهم أشخاص يعانون من ظروف معيشية وأسرية صعبة، ومعظمهم حالات يائسة بدلاً من أن تنتحر تتحوّل إلى لقمة سائغة في فم المعتقدات الخاطئة ومسوّقيها ومستثمريها”. وتشدّد على أنّ “عدداً كبيراً من الموقوفين مظلوم ومعتقل من دون محاكمة، ما ينمّي لديهم شعور المظلومية، وربما الحقد، وهذا يولّد الرغبة في الانتقام، حتى إنّ البعض تحت الضغط والضرب والتعذيب في التحقيقات، قد يعترف بأيّ شيء حتى ولو لم يفعله”.
وتنستنكر المحامية فتحة الإشارة إلى البيئة السنية كحاضنة للإرهاب، في حين أنّها “أكثر البيئات مناهضَة له، وحتى إنّها لا تملك السلاح، وليست هي من أرسل المسلّحين بباصات مكيّفة من الجرود ليعاد استجلابهم غبّ الطلب”. وتضع فتحة إشارات استفهام على حادثة كفتون وربطها بداعش الذي أخذ يظهر في واجهة الأحداث من جديد لغايات سياسية واضحة.
من النقطة نفسها، ينطلق الوزير العكاري السابق معين المرعبي، ليصف داعش بـ”الشمّاعة”. ويذهب أبعد من ذلك، ليتهم أجهزة أمنية بتضليل بعض الشبان وتشغيلهم لحسابها: “فالمستغرب أنّنا نعرف قبل وقت بمجيء داعش. وهذا ما تمّ الترويج له قبل أشهر، من إدلب إلى اللاذقية إلى تدمر، من تحت الأرض وفوق الأرض، وفي البر والجوّ.. لكن لا نعرف لماذا لا توقف الأجهزة الأمنية هذه العناصر قبل القيام بعملياتهم الأمنية”. ويضع المرعبي في حديثه لـ”أساس” إشارات استفهام حول حادثة كفتون التي لا يرى فيها أيّ ترابط منطقي مسبِّب لما حصل. ويشكّك في التوقيت أيضاً: “ففي كلّ مرة، وكلّما احتاج فريق معيّن لعملية معيّنة نجدها حصلت… هناك استخفاف بعقولنا”.
ويسأل المرعبي حزب الله “الذي كان قد نصّب نفسه كـUber (شركة التوصيل العالمية عبر سيارات الأجرة) للإرهابيين في الجرود، لماذا من بعد التغلّب على داعش نراها تعود فجأة”. ويتهم حزب الله بأنّه أكبر شريك لداعش “كون الإرهاب يبرّر الإرهاب، وإلا لما كان هرّبهم بتسوية على حساب الجيش اللبناني من جرود عرسال”. ويؤكد أن لا بيئة حاضنة لهؤلاء في الشمال “فشقيقي عسكري، جاري عسكري، صديقي عسكري، قريبي عسكري، نحن نعتبر أنّ بيننا وبين داعش ثأراً، وبين من هرّبهم أيضاً. فكفى تركيبات مخابراتية، والأموال التي تمنح للمخبرين الذين يملأون الأحياء والمدن والقرى، فلتُصرف على إغاثة الفقراء. بدلا من ادّعاء وجود عناصر من داعش قادرة في هذا الظرف على تنفيذ عمليات اغتيال..!”.
هناك تضخيماً لدور داعش في لبنان، وأن لا بيئة حاضنة له، وحتى المتورّطين منهم هم “دمى على مسرح، وماريونيت يُستخدمون لغايات سياسية
يفسّر أستاذ الدراسات الإسلامية الدكتور أحمد موصللي أسباب عدم توقيف هذه العناصر قبل قيامها بأيّ عمل، ويؤكد لـ”أساس” أن تطويق هذه الجماعات من دون أن تتحرّك قد يُحدث خضة في البلد بأبعاد طائفية، لاسيما أن هؤلاء “يلجأون إلى مناطق سكنية ويتخذون من الأماكن المأهولة غطاءً لهم. ولذلك لا يمكن توقيفهم لمجرّد الشك أو لمجرّد أفكارهم، بل يجب أن يكون هناك دليل ملموس أو معلومات مؤكدة”.
وخطر داعش لا يزال موجوداً برأي موصللي، “وإن كان مضخّماً بسبب الحالة الطائفية والمذهبية والفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها لبنان، وهي الحالة التي تجد خلالها الجماعات المتشدّدة فرصة وثغرات ضعف، تسمح لها بالتحرّك وتجنيد العناصر والوقت يكون مناسباً طالما أنّ الأجهزة الأمنية منشغلة بخضّات أخرى في الشارع، لكنّ خطرها لا يتعدّى تنفيذ بعض العمليات النوعية المؤذية، على اعتبار أنّ انتشارهم بات محدوداً بعد ضرب وجودهم في العراق وسوريا، وتجمّعهم في إدلب”.
ولذلك يدعو الدكتور موصللي إلى الانتباه الدائم حتّى لو كان هؤلاء لا يشكّلون خطراً داهماً وكبيراً، وإن كانوا يلجأون لبعض المناطق التي تتعاطف معهم “لكن البيئة بشكل عام والقيادات السياسية غير متعاطفة معهم في لبنان ما يحدّ من خطرهم ووجودهم”.