عندما تجتاز “صيدليات لبنان” الواحدة تلو الأخرى، من بيروت إلى الشمال إلى الجنوب وصولاً إلى البقاع، بحثاً عن دواء لوالدك السبعيني، وتبوء كلّ محاولاتك بالفشل، يساعدك أحد الأصدقاء العاملين في المجال الطبي بالحصول على علبة واحدة فقط لا غير، ويضعك في الجوّ: “هذا الدواء مقطوع وتأمينه في هذه الظروف، أصبح عملية شبه مستحيلة لأنه مستورَد”.
إقرأ أيضاً: مستشفيات لبنان وأطباؤه: لا نريد مستشفيات ميدانية بل معدّات وأموال
تحمل العلبة وتعود أدراجك وفي قلبك خيبة بحجم الوطن، وأنت تعلم أنّ هذه العلبة لن تكفي حاجة والدك، صباحاً ومساءً، 75 يوماً في حدّ أقصى. وتعلم إن لم يتناول والدك هذا الدواء في موعده، قد يُصاب بحالة نادرة من شلل الأطراف وبعض الوظائف الحركية… وترى في المقابل شللاً سياسياً يضرب رأس الدولة وقلبها وأدنى وظائفها الخدماتية، فتدرِك حينها أنّك محجور في كرنتينا جماعية ولست في بلد طبيعي، بل في ملجأ كبير لا في وطن…!
لا يستبعد عراجي فرضية تهريب الدواء المدعوم إلى الخارج، لأنّه بات ثمنه اللبناني أرخص من أثمانه في الجوار، ما عدا سوريا التي تتمتع بصناعة وطنية
هذه حالة واحدة من آلاف لا بل ملايين اللبنانيين الذين تبيع سلطة الموت وتشتري بصحتهم عند كلّ مفترقٍ دولاري، وعند كلّ معبر حدودي ومرفأ حيوي. فهل خبر رفع الدعم عن المواد الأساسية هو السبب الوحيد لانقطاع الدواء وتهديد صحة الناس؟ أم أنّ هناك أسباباً إضافية؟ وما الذي ينتظر اللبنانيين الذين يعيشون حالة هيستيريا “دوائية” جماعية منذ أكثر من أسبوعين؟
يربط رئيس لجنة الصحة النيابية النائب عاصم عراجي شحّ الأدوية وانقطاع بعضها بالأخبار المتداولة عن رفع الدعم عنها، ما زاد الطلب عليها: “وهذا الخوف مبرّر في بلد مثل لبنان”. ويؤكد أنّ “الشحّ ضرب معظم أصناف الأدوية”.
لا يستبعد عراجي فرضية تهريب الدواء المدعوم إلى الخارج، لأنّه بات ثمنه اللبناني أرخص من أثمانه في الجوار، ما عدا سوريا التي تتمتع بصناعة وطنية. ويكشف لـ”أساس” أنّ المعلومات المتداولة تشير بالأصابع إلى العراق وتحديداً أربيل، حيث “يقوم بعض التجار بتجميع الدواء من الصيدليات، لا سيما أنّنا البلد الوحيد الذي يبيع الدواء من دون وصفة طبية، ويمكننا إعادة تصديره”. ويتحدّث عن عمليات تزوير تحصل في المرفأ: “ما إن تصل الأدوية حتى تُشطب بطريقة أو بأخرى، ويُعاد تصديرها للكسب المادي على حساب التلاعب بصحّة الناس”. ويكشف أيضاً أنّ آخر معطيات رفع الدعم تشير إلى احتمال تخفيضه من 85 إلى 60 %، ما سيرفع ثمنها”.
عراجي يقول إنّه دقّ ناقوس الخطر لدى النقابات المعنية منذ 4 أشهر، عند انقطاع أدوية القلب، وحصل على وعود بتشديد الرقابة على الصيدليات وشركات الأدوية ومستودعاتها. حتّى إنّ وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن أصدر قراراً بمنع المستودعات من بيع الأدوية، مناشداً الأطباء تشجيع الأدوية الجينيريك (الأدوية البديلة، بالتركيبة نفسها، لكن من ماركات أخرى): “وتشجيع الأدوية الوطنية، وتخفيض كلفة الفاتورة الدوائية التي تشكّل ملياراً ونصف المليار دولار سنوياً، استيراداً، بينما لا تشكّل الأدوية المحلية أكثر من 7% من هذه الفاتورة. ولدينا 11 مصنعاً للأدوية”.
75 % من الأدوية اليوم مقطوعة من الصيدليات. فالطلب كبير جداً على الدواء، وهناك من يطلب فاتورة تكفيه 6 أشهر أو سنة وأحياناً 3 سنوات، وذلك تبعاً لتاريخ الصلاحية، ما زاد الضغط على المخزون الدوائي
نقيب الصيادلة غسان الأمين يرفض تحديد نسبة الأدوية المقطوعة كلياً في لبنان ويصفها بـ”القليلة”، ويصف ما يحصل بـ”الشحّ الكبير في هذه الأدوية”، تصل نسبته في الأدوية المزمنة إلى أكثر من 50 %. ويعيد أسباب ذلك إلى “الهلع الحاصل لدى الناس من جراء الحديث عن رفع الدعم عن الأدوية، والتخوّف من ارتفاع أسعارها 5 أضعاف، فبدأ المواطنون بشراء الأدوية وتخزينها في البيوت، ما قلّل المخزون لدى المستورِد من 6 أشهر إلى 45 يوماً، حتّى أصبحت الشركات المستوردة عاجزة عن تلبية الطلب في السوق وبدأت تسلّم الدواء بالقطّارة”. ويؤكد الأمين أنّ الهلع مستمر لدى الناس بالرغم من الحديث عن تراجع حاكم مصرف لبنان عن قراره، واللجوء لتخفيض الدعم لا رفعه نهائياً.
وفي ما يخصّ الكلام عن تهريب الأدوية المدعومة إلى الخارج، يقارن الأمين في حديثه لـ”أساس” بين الفترة الممتدة من كانون الثاني حتّى نهاية آب 2019 والفترة نفسها من العام الحالي 2020، ليتبيّن معه أنّ “الاستيراد انخفض ولم يرتفع، ما يعني أنّ التهريب إن وجد فهو محدود جداً”.
وعن الحلول، يقترح الأمين اجتماعاً “لم يحصل بعد حتّى الساعة” يجمع ممثّلين من مصرف لبنان ووزارة الصحة “اللتين تعانيان من عدم التنسيق الواضح في هذا الملف” ونقابة الصيادلة ونقابة المستوردين، لمناقشة الفاتورة الدوائية وأنواعها، وتصنيفها بين مهمّ وأهم، واتخاذ القرارات بناءً على دراسات. ويقترح الأمين التعاون “من أجل وضع كلّ الداتا من أرقام ودراسات بين أيدي المعنيين، وتقديم اقتراحات وتصوّرات لحلول قريبة وبعيدة ليست بحاجة إلا للتبنّي والتطبيق”. ويذكر الأمين على سبيل المثال، أو على سبيل الفشل، أنّ سياستنا الدوائية عمرها يفوق الـ50 السنة، ولدينا فاتورة دوائية هي الأعلى في المنطقة. فالأردن مثلاً عدد سكانه ضعف عدد سكّان لبنان، وفاتورته الدوائية توازي نصف فاتورتنا، وأميركا فاتورتها الدوائية 90 % منها “جينيريك”، وفي أوروبا 72 % جينيريك، ونحن 80 % من فاتورتنا ماركات بسبب سياسة دوائية فاشلة ومكلفة، علماً أنّ هناك أدوية جينيريك عالمية معتمدة وبربع القيمة، إلى جانب المصانع المحلية”.
الصيدلاني مايكل يعمل في إحدى صيدليات المتن الكبرى، يؤكد بدوره على أنّ 75 % من الأدوية اليوم مقطوعة من الصيدليات. فالطلب كبير جداً على الدواء، وهناك من يطلب فاتورة تكفيه 6 أشهر أو سنة وأحياناً 3 سنوات، وذلك تبعاً لتاريخ الصلاحية، ما زاد الضغط على المخزون الدوائي، وما عادت الأمور مرتبطة بأدوية الضغط والقلب والسكري وسيلان الدم، كما في المرحلة السابقة، بل تجاوزت ذلك لتشمل معظم الأصناف”.
ويشير مايكل في حديثه لـ “أساس” إلى أنّ بعض الشركات (تتمقطع) بالصيدليات “ولا تسلّمنا أكثر من حبّة أو اثنتين من كلّ دواء، وذلك بهدف تخزينها واحتكارها لمعرفتهم بأنّ أسعارها سترتفع في الأشهر المقبلة”.
يصف مايكل الوضع في الصيدلية حيث يعمل بالقول: “أوّل مرة بشوف الرفوف فاضية”، وهي الصيدلية التي كانت تشتري من كلّ صنف دوائي ما بين 30 إلى 40 قطعة على الأقل، وعلى سبيل المثال لا الحصر، دواء “الكلافيكس” للقلب كان يتوفّر منه ما لا يقل عن 100 علبة “أما اليوم فلا يوجد منه ولا حتّى علبة واحدة، ولا يقوم الوكلاء بتسليمنا، ونجد أنفسنا عاجزين أمام أشخاص نعرف ويعرفون أنّ انقطاع أنواع محدّدة من الدواء قد يتسبّب بتدهور وضعهم الصحي وصولاً إلى الوفاة”.
يقدّر المصدر أصناف الأدوية المقطوعة في الشركات اليوم بما يقارب الـ30 %، ولا يستبعد أيضاً احتمال قيام بعض الجهات بتهريب الدواء المدعوم إلى خارج لبنان في ظلّ وضع “مأساوي” و”ضبابي
الواقع نفسه ينطبق على شركات استيراد الأدوية والمستودعات. ويؤكد أحد العاملين في واحدة من هذه الشركات لموقعنا إنّها تعاني منذ إقفال المطار، وكانت طوال الفترة السابقة تعتمد على الأدوية المخزّنة لديها إلى أن بدأت الدولة بتغطية 85 % من سعر الأدوية على سعر الـ1500 ليرة للدولار الواحد: “وحتى مع الدعم كانت عملية فتح الاعتمادات غير سهلة والاعتماد الذي كان يحتاج لأيام بات يحتاج لأسابيع أو أشهر”.
يحذّر المصدر من أنّ هناك أدوية “انقطعت”، ويُتوقّع عدم عودتها إلى السوق اللبنانية كلياً “كونها ما عادت مربحة للشركات والصيادلة، وتحديداً نتحدّث عن الأدوية الرخيصة”. وتقوم الشركات اليوم، بعد الهجمة الشرسة على شراء الأدوية، بتحديد سقف السحب والتسليم للمستودعات والصيدليات الكبرى: “مثلاً يُنظر في فواتير هذه المؤسسات السابقة وحاجتها الشهرية وتُسلّم أعداداً متقاربة لطلباتها السابقة، لأنّ شركات الأدوية لا تستطيع تحمّل زيادة الضغط بهذه الطريقة، لا سيما على أدوية الأمراض المزمنة، كونها مستوردة، بسبب المشاكل في الاعتمادات والدولار. فالصيدليات التي كانت تطلب 20 علبة من دواء معيّن، تطلب اليوم 50 علبة، وذلك تلبيةً لطلبات الناس التي تقوم بتخزين ستوكات في بيوتها”.
ويقدّر المصدر أصناف الأدوية المقطوعة في الشركات اليوم بما يقارب الـ30 %، ولا يستبعد أيضاً احتمال قيام بعض الجهات بتهريب الدواء المدعوم إلى خارج لبنان في ظلّ وضع “مأساوي” و”ضبابي. هذا لأنّ “عشرات الشركات أقفلت أبوابها منذ بدء الأزمة حتى اليوم أو صرفت موظفين، أو أقفلت فروعاً، وهي التي يُقدّر عددها بأكثر من 100 شركة من بينها التي تعنى بالمتمّمات الغذائية والكوزماتك”.
إذاً يبدو لبنان مقبلاً على أزمة صحيّة هي الأشرس، تهدّد بـ”موت جماعي”.