عودة الفنَّان المحبوب (لدى الشعب والسلطة على حدّ سواء) ياسر العظمة إلى الكلام، بعد صمته لتسع سنوات من عمر المذبحة السورية، تستحقُّ تعليقاً.
إقرأ أيضاً: يوم تمنَّت جريدة “تشرين” تدمير بيروت
فالصحيح أنّ هذه العودة إلى الشاشة، من خلال برنامج يُبثُّ على موقع “يوتيوب”، لم تكن عودةً واحدةً، بل سبقتها عودةٌ، أكثر أهمية، إلى سوريا التي كان العظمة قد غادرها في العام الثاني للثورة.
عاد ياسر العظمة، وهو أحد مؤسّسي الدراما السورية ورائد من روَّاد المسرح السوري، إلى دمشق في شباط 2019، وسرَّبت يومذاك مصادر مقرَّبة من الفنَّان بعض تفاصيل لقائه مع رئيس “جهاز أمن الدولة” ونائبه في العاصمة، مؤكّدةً على “ودّية” اللقاء الذي تكلَّل بحصول العظمة على “موافقة شفوية” لإعادة إنتاج مسلسله الشهير “مرايا”!
السنوات التسع الماضية كانت كافيةً ليتعلَّم فيها ياسر العظمة ارتجال الشعر العمودي، لكنها لم تكن كافيةً ليتعلَّم فيها ارتجال كلمة حقّ
في السنوات السبع التي أمضاها خارج سوريا، لم ينبس ياسر العظمة ببنت شفة حول حرب الإبادة المتصاعدة في بلده. بمعنى أنه حين كان حرّاً في انتقاد جرائم نظام الأسد دون خوف من الأذى، لم يفعل ذلك، بل إنه أكَّد أكثر من مرَّة التزامه خطّ الحياد والصمت!
وحين أطلَّ في فيديو قصير، بتاريخ 24 نيسان الفائت، للترويج لصفحاته الخاصة على السوشال ميديا، توجَّه بالتحية إلى “أهل سوريا الكرام، مقيمين أو مسافرين، مهاجرين أو مغتربين”، متجاهلاً الفئة الأكبر منهم: فئة المهجَّرين والنازحين!
اليوم يطلُّ بطل “مرايا” بأوَّل عمل له، بعد غيابٍ، حمل اسم “مع ياسر العظمة”، وجاءت حلقته الأولى على شكل قصيدة عمودية كتبها الفنَّان بنفسه عن مدينة دمشق، وألقاها بإتقانٍ مع مؤثّرات بصرية وصوتية.
وعلى ما يبدو، فإنَّ السنوات التسع الماضية كانت كافيةً ليتعلَّم فيها ياسر العظمة ارتجال الشعر العمودي، لكنها لم تكن كافيةً ليتعلَّم فيها ارتجال كلمة حقّ!
في منطق ياسر العظمة، تظهر مدينة دمشق وكأنها أرخبيل معزول عن بقية المناطق السورية، فهي –كما يقول في قصيدته- “إذا رضيتْ دمشقُ تبسَّمَ الدهرُ”. بل إنَّ مدينة دمشق، في منطق العظمة، معزولة ومسلوخة حتى عن غوطتها التي ارتكب فيها نظام الأسد مجزرته الكيمياوية الأشهر، والتي لم تستدعِ من فنَّاننا قول أيّ كلمة، ولو على سبيل الرثاء للضحايا!
إصرار ياسر العظمة على الاستمرار بإنتاج مسلسله الشهير تحت عين المخابرات وموافقتهم، يبعث برسالةٍ لا تحتاج إلى علماء رموز لقراءتها
لم يطالب أحدٌ ياسر العظمة بأن يكون معارضاً أو ثائراً، ولكن لم يكن مقبولاً منه ألّا يكون إنساناً، فيُظهر عاطفته تجاه المظلومية الاستثنائية التي تقع على هذا الشعب الذي أحبَّه وأفردَ له زاوية خاصة تُميّزه عن بقية الممثّلين والفنَّانين السوريين.
المدافعون عن العظمة ينطلقون من كونه لم يقم –كزميله دريد لحَّام مثلاً- بمساندة النظام علناً والتشبيح لصالحه. أي أنهم لم يجدوا وسيلةً لتبرئته من هذا الصمت، المريب والمعيب، إلا من خلال مقارنته بالأسوأ!
والحقّ أنَّ الدور الذي كان قد لعبه العظمة شبيهٌ، بل ربما مكمِّلٌ للدور الذي كان قد لعبه زميله دريد لحَّام، بحيث إنهما كانا أداة “تنفيس” للمجتمع السوري من خلال النقد الاجتماعي السطحي الذي كانا يُقدّمانه، والذي سمح نظام الأسدَيْن بعرضه على شاشته الرسمية، كدليلٍ على “ديموقراطيته”، وعلى أنه يُعطي هامشاً للنقد.
ولذلك، لم تتحرَّج المصادر المقرَّبة من ياسر العظمة على تسريب خبر نيله “موافقة شفوية” من رئيس جهاز مخابرات على إنتاج مسلسل كوميدي وسط المذبحة التي تقودها أجهزة المخابرات نفسها!
إنَّ إصرار ياسر العظمة على الاستمرار بإنتاج مسلسله الشهير تحت عين المخابرات وموافقتهم، يبعث برسالةٍ لا تحتاج إلى علماء رموز لقراءتها.
لقد أدار الفنَّان ظهره في اللحظة التي كان مطلوباً منه أن يرفع صوته. أمَّا “مراياه” التي طالما دعانا لنرى وجوهنا من خلالها، فقد تحطَّمتْ، وحَشَا الدكتاتور ببعض شظاياها براميلَه المرعبة.