تعقيباً على مقال الزميل هشام عليوان “شيعة جبل عامل ولبنان الكبير”، ننشر المقال الذي تلقّاه “أساس” من الصديق الشيخ عباس الجوهري، ناشر موقع “نيوليبانون”.
لم تكن فكرة الدولة في لبنان عميقة الجذور. فقد كان لبنان على مرّ العهود تتبع مدائنه للسلاطين، عثمانيين كانوا أم مماليك. وحتّى في ظلّ دولة الخلافة الإسلامية، عباسية كانت أم أموية، فقد كانت جغرافيته عصيّة في بعض الأحيان، ومستلحقة في أحيان أخرى، ونقاط تماس في أطوار أخرى. وكانت الصراعات والحروب التي مرّت في التاريخ بين المسلمين والإفرنج تعتبره ثغراً من الثغور، ولذلك لم تقم فيه دولة مستقلة إلا في التاريخ الحديث.
إقرأ أيضاً: المئوية: شيعة جبل عامل ولبنان الكبير
وبعد سقوط السلطنة العثمانية، كان المسيحيون الموارنة أو الروم الأرثوذوكس جاهزين وحاضرين، بل ومطالبين لقيام دولة مستقلة. ففكرة الاستقلال عن المحيط المستتبع كانت ناجزة، بل وتحمل بعداً قيَمياً لدى المسيحيين، في حين أنّ الانسلاخ عن الدولة الإسلامية الكبرى، يعتبر خيانة لدى المسلمين، سُنّةً كانوا أم شيعة. فأهل السُنّة لم يستسيغوا فكرة الانفصال عن الدولة الإسلامية، عثمانية كانت أم عربية. أما الشيعة فقد كانوا خارج لعبة السلطة باعتبار أنّها غير حائزة على الشرعية. فهم يعتقدون أن لا شرعية لدولة أو سلطة في غياب إمامهم الغائب الثاني عشر، المهدي المنتظر.
الشيعة لم تكن قد تبلورت لديهم فكرة الدولة بعد. كانت مرجعيتهم الدينية أكثر التصاقاً بالناس من بكوات الشيعة الإقطاعيين الذين استفادوا من علاقاتهم اللصيقة بالولاة العثمانيين
ولذلك، وعند دخول الفرنسيين بلادنا إلى جانب جيوش الإنكليز وحتّى الألمان بعد الحرب العالمية الأولى، استقرّت الجيوش الفرنسية في بلادنا، وانتدبت حكّاماً وأنشأت دولة لبنان الكبير الذي تمرّ بنا اليوم ذكرى مئويته الاولى.
لن نخوض كثيراً في أحداث المئة عام التي حملت محطات كثيرة أدخلت اللبنانيين في تشارك وتقاتل، كانت في معظمها مختبراً حيّاً حيث صقلت التجربة اللبنانيين وأثقلت كاهلهم باختبارات نجحوا في بعضها وأخفقوا في بعضها الآخر.
لن أقارب كلّ التجارب، بل سأضع تجربة فريق من اللبنانيين على طاولة البحث والنقاش، وهم المسلمون الشيعة اللبنانيون.
هذا الكيان المستجدّ، الذي عبّر عنه هنري كيسنجر ذات يوم أنه “خطأ جغرافي”، في الحقيقة إنّه معجزة في التنوّع والتعدّد شريطة أن تدار بعقلانية في الحفاظ على الهوية الفرعية مع الانصهار بالهوية الوطنية الجامعة، وهذا بحاجة إلى إنجاز دائم.
ما أشبه اليوم بالأمس: ماكرون في بيروت 2020 يدعو اللبنانيين إلى عقد سياسي جديد، ويقول صراحة إنّ نظامكم لم يعد يلائم عصركم، فقد انتهت الصلاحية على أن تطوّروه من داخله، وليس بانقلاب على كلّ تجارب الماضي، وهو يدعو إلى لبنان الجديد.
غورو بالأمس عام 1920 كان منهمكاً في مساعدة اللبنانيين بكلّ مكوّناتهم المدنية والسياسية على إنجاز دولة لبنان الكبير. وإشارة إلى أنّ تسمية لبنان كانت مقتصرة على جبله. وقد ذكره المؤرخون والشعراء، ومنهم المتنبي، بجباله وصقيعه، ولعلّه مرّ به في شتاء، فلم ير عذوبة هضاب سواحله التي تغسل أقدام جبله.
لم يحتَج الجنرال غورو إلى مزيد عناء لإقناع المسيحيين بالانخراط في فكرة قيام الدولة، فلقد كانوا جاهزين، وعلى رأسهم البطريرك إلياس الحويك وشخصيات حفظ لها التاريخ دورها ووجودها، للبدء في تحقيق ما كان حلماً بالنسبة إليهم. أما السُنّة في زمن التأسيس، فقد كانوا مدركين لضرورة النظام، تابعاً كان أم مستقلاً، لأنّهم كانوا في الديوان عند العثمانيين ويعرفون ضرورة الدولة والسلطة.
غير أنّ الشيعة لم تكن قد تبلورت لديهم فكرة الدولة بعد. كانت مرجعيتهم الدينية أكثر التصاقاً بالناس من بكوات الشيعة الإقطاعيين الذين استفادوا من علاقاتهم اللصيقة بالولاة العثمانيين. كان للإقطاعيين نضوج ضرورة الاندماج في مشروع الدولة، لكن كانت الغلبة لغيرهم في مؤتمر وادي الحجير الذي انعقد في 24 نيسان 1920. هناك تقرّرت دراسة فكرة الانضمام إلى مشروع الدولة المزمع تأسيسها. لكنّ مجموعتين مسلّحتين بقيادة أدهم خنجر وصادق حمزة غلّبتا نزعة التمرّد والثورة، وغذّاها السيد عبد الحسين شرف الدين وحمّل أعمالهما راية “النضال في وجه المحتل الفرنسي”. مع العلم أنّ السيد شرف الدين في كتابه “بغية الراغبين”، يقول إنّ مشروعه كان “العمل السلمي لا الثوري المسلح”.
في الواقع كان للسيد شرف الدين إيمان بمشروع الملك فيصل، ابن الشريف حسين الذي ساهم في إطلاق الثورة العربية الكبرى والذي وقف بقوة إلى جانبها. وكان من المنادين بالوحدة السورية تحت راية الملك فيصل. إذن لم تكن فكرة الدولة ناجزة عند مرجعية شيعة جبل عامل آنذاك، وعمل على إبقاء الاتصال بسوريا، وجعل جبل عامل ساحلاً لدمشق.
يُسجّل للسيد نصر الله استشرافه اللعبة الدولية، مع تأنّيه العلنيّ في قبول ما يُعرض على الشيعة من توازنات جديدة في النظام المزمع تأسيسه أو إنجازه مع زيارات ماكرون المتتالية إلى لبنان
حاول غورو كثيراً إقناع السيد شرف الدين، وهناك وثائق تثبت اجتماعاته به وتؤكد وجود حوارات طويلة لإقناع السيد شرف الدين، لكن دون جدوى. بعدها جهّز غورو حملة إلى جبل عامل، ودخل قرية السيد شرف الدين وأحرق داره ومكتبته. فهرب الأخير مهاجراً إلى فلسطين عن طريق الجولان. وترك الشيعة متردّدين وقلقين وخجولين في تبنّي فكرة الكيان والدخول به. وقد دخلوا فيه على استحياء، وعبر الإقطاع، ما أفقدهم الشراكة الحقيقية، وأصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية.
وفي لحظة تفاهم وتقاسم النفوذ بين الفرنسيين والإنكليز، تُركت منطقة الشام ولبنان للفرنسيين وأصبح المشغّل واحداً. عندها سقط بالكامل مشروع فيصل في الشام، ومعه تلاشى حضور السيد شرف الدين وعلماء جبل عامل. وبات شيعة جبل عامل متروكين لعائلات الإقطاع السياسي… إلى حين وصول السيد موسى الصدر، الذي كان يحمل مشروعاً فكرياً أقرب إلى الحداثة، وأدقّ في فهم لعبة السياسة، وراح يحاول إدخال الشيعة من جديد إلى مشروع الدولة.
في الأمس وفي ذكرى العاشر من محرم 2020 خطب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قائلاً: “إنّنا منفتحون على أفكار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون”. وشدّد على اهتمامه بما يحمله من فكرة عقد اجتماعي سياسي مع تحسّره لو أنّ الفكرة صنعت في لبنان. ومع إخفاق اللبنانيين في إنتاج عقدهم للبنان الجديد: فهل وعى السيد نصر الله ما فشل في فهمه السيد شرف الدين؟
يُسجّل للسيد نصر الله استشرافه اللعبة الدولية، مع تأنّيه العلنيّ في قبول ما يُعرض على الشيعة من توازنات جديدة في النظام المزمع تأسيسه أو إنجازه مع زيارات ماكرون المتتالية إلى لبنان.
لقد وعى الشيعة متأخرين ضرورة العودة الى الدولة، لكن بدون أوهام الغلبة والسلاح التي مكّنتهم من تحرير الأراضي اللبنانية، ويمكن أن يتحوّل إلى فخّ إذا أسيء استخدامه. وقد حدث ذلك لمرّات، ولو أنّها ليست كثيرة. لكنّها كانت شديدة التاثير على صورة من يمهّد للعودة إلى الدولة.