يمكن القول بلا مبالغة إنّ مرفأ بيروت كان العنصر الأساس، بأل التعريف، في تكوين “الخريطة الاقتصادية” لدولة لبنان الكبير، التي رسمت قبل مئة سنة بالتمام والكمال.
في 25 تشرين الأول 1919، قدّم البطريرك الياس الحويك مذكّرة الوفد اللبناني إلى مؤتمر الصلح في فرساي، وهي تضمّنت المطالبة باستقلال لبنان وإعادة الأراضي التي سلختها عنه الدولة العثمانية، والقبول بالانتداب الفرنسي. في ذلك الحين، كان الطرح الدولي يميل إلى إبقاء لبنان جزءاً من فيدرالية سورية. وحين قبل الفرنسيون بمبدأ استقلال الدولة اللبنانية عن سوريا، قدّم الحويّك طلباً طموحاً لم يقبل به الفرنسيون ابتداء: كان يريد اثنين من الموانئ الكبرى في شرق المتوسط للدولة التي أقنع الفرنسيين بإيجادها، لتكتسب قوة اقتصادية لا تضاهى.
إقرأ أيضاً: هل ينبعث مرفأ حيفا من تحت رماد مرفأ بيروت؟
كان في شرق المتوسط حينذاك ثلاثة موانئ رئيسية في حيفا وبيروت وطرابلس، ولم تكن مرافئ اللاذقية وطرطوس واسكندرون قد وجدت بعد. بعد الحرب العالمية الأولى، آلت حيفا إلى الإنكليز، وفاز الفرنسيون ببيروت وطرابلس.
تجار بيروت نجحوا، بدعم فرنسي، في إقناع العثمانيين برفض المشروع، وإعطاء أحد وجهاء بيروت حسن بيهم، امتيازاً لإنشاء خط القطار بين بيروت دمشق في العام 1891، والذي باع الامتياز للفرنسيين في العام التالي، ليفتتح بعد ذلك في العام 1985. ومنذ تلك اللحظة باتت بيروت منفذ دمشق إلى التجارة مع أوروبا
ما لا يُذكر كثيراً في التاريخ أنّ فرنسا لم توافق على ضمّ بيروت وطرابلس إلى لبنان إلا قبل وقت وجيز من إعلان لبنان الكبير في 31 آب 1920. ففي أرشيف مراسلات البطريرك الحويك، تظهر رسالة منه إلى ممثّله في فرنسا المطران عبد الله الخوري بتاريخ الحادي والثلاثين من تموز، أي قبل شهر واحد من إعلان لبنان الكبير، أنّ “الأفكار تحوّلت عن بيروت، أما طرابلس فلا”، في إشارة إلى رفض الفرنسيين ضمّ المدينة الشمالية إلى لبنان.
لم يكن لإصرار الحويك على ضمّ طرابلس من تفسير سوى الأهمية الاقتصادية التي يمثّلها وجود المرفأ فيها لئلا يصبح لسوريا ميناء منافس أو بديل عن ميناء بيروت. ولعلّ من المفارقات أنّ الحويك نفسه اقترح خلال فترة الاضطرابات في العامين 1925 و1926 فكرة “نقل الشعوب”، والتي كانت تشير إلى أنّ البطريرك لم يكن راغباً بضمّ الديمغرافيا الطرابلسية إلى لبنان، بل بضمّ مينائها. وأثبتت وقائع التاريخ بعد ذلك ضمور مرفأ طرابلس في الجغرافيا اللبنانية، خصوصاً بعد أن استعاضت سوريا عنه بإنشاء ميناء اللاذقية في الخمسينات.
حاز لبنان اثنين من الموانئ الثلاثة الكبرى في شرق المتوسط فيما كان الثالث محاصراً بالمقاطعة العربية
اللافت أنّ خريطة خطوط سكك الحديد المتصلة بالمرافئ في بلاد الشام، كانت محلّ تخطيط وصراع بين الفرنسيين والإنكليز منذ منتصف القرن التاسع عشر، أي قبل سقوط الحكم العثماني بوقت طويل. فقد سعى الإنكليز لإنشاء سكة حديد بين حيفا وحوران لتصدير قمح السهل الخصيب إلى أوروبا، إلا أنّ تجار بيروت نجحوا، بدعم فرنسي، في إقناع العثمانيين برفض المشروع، وإعطاء أحد وجهاء بيروت حسن بيهم، امتيازاً لإنشاء خط القطار بين بيروت دمشق في العام 1891، والذي باع الامتياز للفرنسيين في العام التالي، ليفتتح بعد ذلك في العام 1985. ومنذ تلك اللحظة باتت بيروت منفذ دمشق إلى التجارة مع أوروبا.
وبحسب ما يشير مقال لجويل بطرس على موقع “المفكرة القانونية” في العام 2014، كان الضابط السابق في البحرية الفرنسية الكونت إدمون دو بوتروي، هو من يدير خيوط اللعبة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. فقدم استخدم بوتروي البعلبكي الماروني يوسف مطران واجهة للسيطرة على امتياز من العثمانيين لتطوير مرفأ بيروت في 1889، وعلى امتياز آخر لإنشاء سكة حديد بين حوران ودمشق، ثم على امتياز لخط القطار من دمشق إلى حلب، مروراً بحمص وحماه، ثم من رياق إلى حمص. وأضيف إلى تلك الشبكة خط استراتيجي من طرابلس إلى حماه، بدأ تشغيله عام 1911، أي قبل الحرب العالمية الأولى بثلاث سنوات. وقد وفّرت فرنسا التمويل لمعظم هذه المشاريع من خلال “البنك العثماني”، وهو بنك فرنسي كان عاملاً في الآستانة.
ضمر مرفأ طرابلس في الجغرافيا اللبنانية خصوصاً بعد أن استعاضت سوريا عنه بإنشاء ميناء اللاذقية في الخمسينات
غير أنّ مطلع القرن العشرين شهد تطوّراً مهماً في شبكة النقل الإقليمية، تمثّل بسكة قطار الحجاز، التي ربطت تركيا بالمدينة المنورة، وكان لها فرع يصلها بالبحر المتوسط من خلال خط حوران – حيفا، الذي اكتمل إنشاؤه في العام 1905 بطول 161 كيلومتراً، وكان أقصر بكثير من خط حوران – دمشق – بيروت، وأيسر من حيث التضاريس الجغرافية، حتى إنّ حمولة القطار فيه كانت تعادل سبعة أضعاف ما يحمله القطار بين دمشق وبيروت. وهكذا باتت حيفا شرياناً رئيسياً للتجارة العربية ومنافساً رئيسياً لمرفأ بيروت.
حدث كلّ ذلك قبل سقوط الحكم العثماني لبلاد الشام، والاقتسام الفرنسي – الإنكليزي للمنطقة في اتفاقية سايكس – بيكو، وقبل أن تبدأ وفود البطريركية المارونية بالإبحار إلى فرنسا لحجز اسم على الخريطة لبلد اسمه لبنان.
تبدو المناخات الدولية ملائمة للإسرائيليين للعودة إلى المنافسة، فيما لبنان الذي أنشأه البطريرك تغيّر. لم يعد مجده لسيد بكركي، بل آل إلى مرفأ آخر
حاز لبنان الكبير عند إعلانه على اثنين من الموانئ الثلاثة الكبرى على المتوسط، فيما وقع الثالث في حيفا تحت حصار المقاطعة العربية لإسرائيل. لكن الإسرائيليين يأملون أن يعاد فتح الخرائط الجيوسياسية في مئوية لبنان الأولى.
يصادف أنّ إسرائيل أعادت إحياء خط القطار التاريخي بين حيفا وبيسان قرب الحدود الأردنية في العام 2016. كان ذلك جزءاً من خط حيفا – حوران عبر الشمال الأردني. وعهدت إلى شركتين صينيتين لتطوير مرفأي حيفا وأشدود باستثمارات تناهز ثلاثة مليارات دولار، لوضعهما على خريطة طريق الحرير الجديد. ومنذ العام 2018، يعدّ الإسرائيليون خرائط لسكك حديد تربط ميناء حيفا بالعالم العربي، وتربط ميناء أشدود على البحر المتوسط بميناء العقبة على البحر الأحمر.
تبدو المناخات الدولية ملائمة للإسرائيليين للعودة إلى المنافسة، فيما لبنان الذي أنشأه البطريرك تغيّر. لم يعد مجده لسيد بكركي، بل آل إلى مرفأ آخر. لا يمكن للمصادفة وحدها أن تنسف مرفأ بيروت بشحنة من 2700 طنّ من نيترات الأمونيوم. هذا المرفأ هو باب الشرق، من الشام إلى ما بعدها. من دونه يخسر لبنان الكبير أساس دوره الاقتصادي.
هل نُسف المرفأ بقرار دولي أم بغباء محلي الصنع؟ هل بغلطة مهمل أم بعمل استخباراتي أم بصاروخ موجّه؟ الأجوبة مهمة، لكن الواقع الناشئ عما حدث أهم.
View this post on Instagram