تعود رئاسة الوزراء في العرف “الدستوري” على الطريقة اللبنانية إلى الطائفة السنية. المفارقة التي تظهر أمامنا اليوم، وبخاصة مع البيان الأخير للرئيس سعد الحريري، الطالب سحب اسمه من مداولة الترشيح، أننا بتنا أكثر فأكثر بين خيارين أو ثلاثة: إما رئيس وزراء سني، له حيثية شعبية وسياسية في طائفته، إنما من دون إشراك الحزب الشيعي الأكبر في الحكومة، وبالنتيجة استبعاد حزبيتي الشيعة – الرئيستين اليوم وغداً وبعد عشر سنوات – بأقلّ تقدير من الحكومة في لبنان. وإما حكومة تتمثّل بها حزبيتا الشيعة الرئيسيتان، في مقابل رئيس وزراء سنّي ليس له في طائفته من رصيد، في مقابل رئاستين أخريين تحوزان على هذا الرصيد.
إقرأ أيضاً: الاحتلال الحزب “اللهي” الغاشم
الخيار الثالث يبقى طبعاً عدم وجود حكومة من الأساس. لكن هذا الخيار الثالث، لم يعد يشبه أمثاله من حالات الشغور في السنوات الماضية. وسيكون أقرب للدعوة بأن يفرز كلّ رهط حكومته الذاتية، بشكل أو بآخر.
لنعد أدراجنا إلى الخريف الماضي: ما الذي حصل بعد استقالة حكومة سعد الحريري، نتيجة الانفجار الانتفاضي الشعبي بوجهها؟
هو انفجار لم يكن مقدّراً له أن يتحوّل إلى انفجار كلّي تصاعدي بشكل سريع ضد نظام الجمهورية الثانية والمعادلات الحاكمة له في السياسة والأمن كما في الاقتصاد والمال… وبعد أن فشلت المساعي للإتيان بحكومة يرأسها “سنيّ ذو حيثية”، ولا يتمثّل بها حزب الله، ذو الحيثية الشعبية الكبرى ضمن طائفته، تحت ذريعة أنّها حكومة تكنوقراطية، تنأى بنفسها عن السياسة (!!)، كان أن سُمّي وجه تكنوقراطي بلا حيثية شعبية أو سياسية في طائفته، لشغل المنصب الذي يعود إلى هذه الطائفة في عرف دستور الطوائف وتوازنية “الترويكا”. وفي المقابل، جرى العمل كي تكون مشاركة الحزب والحركة في الحكومة غير مباشرتين. هذه المداراة لم تقنع أخصام حزب الله في الإقليم وفي الغرب. اعتبروها حكومة الحزب من اليوم الأوّل.
حكومة دياب كانت محاولة أخيرة للمداراة، للتهرّب الشكلي من المأزق الذي نعيشه منذ الخريف الماضي، وهو أنّه لم يعد هناك من تغطية أميركية ونظامية عربية لحكومة يشارك بها حزب الله، بأيّ شكل كان
هل هذه المداراة متاحة اليوم؟ اليوم هي أصعب بكثير. لنقل إنّها أوفت قسطها للعلى. خدمت “عسكريتها”. ساهمت في عسكرة الحياة من حولنا لضبط وقائع ومشهديات الانهيار، وساهمت في تسريع وتوسيع حدّة الانهيار، نتيجة لفتحها معركة لا تملك أدواتها مع منظومة المصرف المركزي وجمعية المصارف، فأوقفت تسديد اليوروبوند دون أيّ خطة فعلية لليوم التالي، ولم تتمكن من الذهاب بعيداً في أسلوب حصرها للخسائر المالية. هذا في وقت واظبت هذه الحكومة على الأجندة القمعية للمنتفضين والمحتجّين. مشكلتها مع الناس فاقت مشكلتها مع المصارف. لكنّ مشكلتها الأساسية، كانت في عزلتها الخارجية.
حكومة “الخبرات التكنوقراطية” المفترض أنّ أعضاءها على تواصل وظيفي مزمن مع المؤسسات والمنظمات الغربية والدولة، كانت في الوقت نفسه، حكومة منبوذة خارجياً بشكل غير مسبوق في تاريخ الحكومات اللبنانية. بعد الانفجار التدميري الإجرامي الشامل في 4 آب، تراجعت حدّة العزلة، وزادت حدّ التدويل ومساراته المركّبة والمشربكة، ودفع ذلك، أضف إلى النقمة الشعبية، إلى انفراط عقد الحكومة.
لكنّ حكومة دياب كانت محاولة أخيرة للمداراة، للتهرّب الشكلي من المأزق الذي نعيشه منذ الخريف الماضي، وهو أنّه لم يعد هناك من تغطية أميركية ونظامية عربية لحكومة يشارك بها حزب الله، بأيّ شكل كان. وليس هناك من إمكانية واقعية داخلية لقيام حكومة يستبعد منها الحزب بشكل واضح، لا سيما وأنّ تغلّب الحزب في الداخل مدمج مع حلفه مع تيار الرئيس عون وصهره المفضّل، ومع حركة أمل ورئيس المجلس.
هذا المأزق فعلي. أي أنه لا يبدّد بتبديد انطباعات حوله، أو بمعالجة مؤثرات مبثوثة انطلاقاً منه. مأزق فعلي لا مخرج منه من ضمن الآليات التي عرفناها لتسوية المسائل العويصة على صعيد التقاسم والتحاصص حتى الآن. بـ”المشبرح”، إما حكومة بلا تغطية سنية، وإما حكومة بلا تغطية شيعية.
ليس هذا المأزق ابن اليوم، نعيشه بشكل أو بآخر منذ الجلاء السوري عن لبنان. غير أنّه، حتّى الماضي القريب كان بالمتّسع، ولو بعسر، وفجوات شغور، ونوبات تعطيل، وعراضات عنف، إيجاد مخارج تصريفية له في كلّ مرة، مرة بالتحالف الرباعي ومرة في صلح الدوحة، تارة باسم ربط النزاع، وتارة من خلال مقولة النأي بالنفس. لا يبدو هذا الأمر ممكناً الآن. بات من الماضي. محاولة تجاوز هذا المأزق الفعلي بالقفزة التكنوقراطية حوله باتت أيضاً من الماضي. هذه القفزة اقترحت في الأساس لتطويق حزب الله، وأفلح الحزب في تجييرها لحسابه وقت تولية حسان دياب. لكن هذا التجيير، ظهر بسرعة شديدة مكشوفاً ومرفوضاً.
الثابت الوحيد في هذه المعمعة أنّ علاقة الحزب العضوية والعاطفية بإيران لا تتغيّر ولا تتبدّل
فالمشكلة ليست مشكلة حزب مسلّح فقط في وضع بلد ليست ضمنه جماعات مطيّفة مختلفة يقوم العقد السياسي بينها على تقاسم السلطة والتحاصص. المشكلة مزدوجة هنا. مشكلة حزب مسلّح له رصيد شعبي حقيقي، وله مدى أكبر بنتيجة حلفه مع تيار عون وحركة أمل معه. مثلما لا يمكن تجاهل تغلّبية الحزب وحروبيته. لا يمكن تجاهل شعبيته ضمن طائفته، ومنظومة الأحلاف التي يحافظ عليه بنباهة، ولو بكلفة أعلى، وتزداد ارتفاعاً.
ليست المشكلة “سلاحية” فقط. في “سلاحيتها” هي مشكلة كيانية. ليست فقط مشكلة “تمثيل ومشاركة”. هي مشكلة التخيير بين ظلم لاحق بهذه الطائفة أو بتلك الطائفة. أن يكون الحزب مسلّحاً، عقائدياً، متغلّباً، ما شئت، فهذا لا يبدّل في هذه المشكلة الفعلية شيئاً كثيراً. يجعلها فقط عصيّة على الحلّ أكثر مما هي عليه. يجعل حلّها موجوداً فقط في صيغة من نوع آخر لإعادة تركيب المعاش اللبناني. صيغة غير موجودة عند أحد اليوم. صيغة لا يمكن أن تخرج أساساً من دماغ أحد. لا يمكن أن تخرج إلا من الواقع المرير، في السنوات الآتية.
هذه المشكلة ليست داخلية فقط. كيانية نعم، داخلية لا. تتصل بشكل عميق بمسار الأمور بين أميركا وحلفائها وبين إيران. من غير الصائب هنا التعسّف في القول إنّ حزب الله لا يتغيّر ولا يتبدّل، ولا إنّ إيران الإسلامية لا تتغيّر ولا تتبدّل. كلّ شيء يتغيّر ويتبدّل… إلا أنّ الثابت الوحيد في هذه المعمعة أنّ علاقة الحزب العضوية والعاطفية بإيران لا تتغيّر ولا تتبدّل. والنفوذ الإيراني في لبنان بات ضرورة وجودية للنظام في إيران أكثر من أيّ وقت سابق، في وقت لم تعد تخفي الولايات المتحدة الأميركية نظرتها للبنان: من دون نفوذ إيراني فيه. هذا غير واقعي بالنسبة إلى الكيان اللبناني كما عرفناه، رغم التناقضية الفعلية بين الحزب الخميني والكيانية اللبنانية. لكن ليس كلّ ما هو غير واقعي في عرف الكيان وتوازناته اللامتوازنة الهشة، هو كذلك في عرف “العالم الخارجي”. ليس لهذا العالم الخارجي اليوم، لا خارطة طريق، ولا خارطة تفصيل للواقع اللبناني المشتهى. لكنْ ثمّة وضوح أميركي واحد: عزل “حزب الله” عن الحكومة، في بلد لا يزال الحزب وحلفاؤه هم “نصف البلد” زاد أو نقص.