يندر أن يُثار لغط حول اسم رجل كاللغط الذي لا يزال يثيره اسم الياس بطرس الحويّك.
البطريرك الماروني الثاني والسبعون الذي لولا عناده وبعد نظره لما كانت “الجمهورية اللبنانية” وبالحدود التي نعرفها. الذي يحفظ التاريخ صورته جالساً عن يمين الجنرال غورو في قصر الصنوبر أول أيلول 1920 يوم إعلانه “دولة لبنان الكبير”، وعن يسار غورو مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا، تتويجاً لنضال وجهد وتصميم هائل بذله البطريرك التاريخي ومجموعة من شخصيات التفت حوله وساندته، في لبنان كما في فرنسا والعالم.
كيف تولّد في ذهن البطريرك الحويك التشبّث الذي عُرف به بفكرة “لبنان الكبير”؟
وُلد الحويّك في قرية حلتا، الفقيرة كسائر وسط البترون، سنة 1843 حيث تكرّس سقوط الإمارة الشهابية بعد صدامات بين الموارنة والدروز في الجزء الجنوبي من جبل لبنان. ونشأ نظام القائمقاميتين في الجبل، بقرار من السلطنة العثمانية وبناء على نصيحة المستشار النمسوي كليمانس فون مترنيخ. والحال أنّ هذا النظام لم يصمد سوى 32 سنة وانهار بعدما سالت الدماء أنهاراً عام 1860، ليعقبه قيام نظام المتصرّفية الذي أعطى جبل لبنان استقلالاً في إدارة شؤونه الذاتية تحت حكم متصرّف مسيحي من رعايا السلطنة العثمانية، وبإشراف الدول السبع: بريطانيا وفرنسا وروسيا وإيطاليا والنمسا وبروسيا، مع الدولة العثمانية التي كانت قد تحوّلت “الرجل المريض”. ذلك المحتضر الذي تسابقت الدول على اقتسام تركته، وأخذت تقيم أحلافاً مع الطوائف في جبل لبنان خصوصاً تحت عنوان حمايتها في زمن تقلّبات مخيفة لهذه الطوائف.
إقرأ أيضاً: لبنان في مئويته: المفتي نجا.. اللبناني الذي قال لا لـ”غورو”
عاش أبناء جبل لبنان استقراراً نادراً في زمن المتصرّفية، رغم ضيق في أسباب العيش بسبب ضآلة المساحات الزراعية وازدياد سريع في عدد السكان، ما دفعهم إلى الهجرة بأعداد ضخمة. وكانت تشجّعهم على الهجرة الكنيسة التي ارتقى فيها الحويك إلى مرتبة البطريرك بطريقة القرعة، وليس بالانتخاب كما يحصل حالياً، خلفاً للبطريرك بولس مسعد. وبقي في السدة البطريركية 32 عاماً حتى وفاته سنة 1931 عن 88 عاماً. وهي المدة الأطول لبطريرك ماروني في تاريخ الطائفة، وقد ملأها إنجازات ومؤسسات أنشأها وأطلقها، لعلّ أبرزها “جمعية راهبات العائلة المقدسة المارونية” (عبرين).
في الحرب العالمية الأولى، يسجّل للبطريرك الحويّك أنه فتح أبواب بكركي للجائعين، ووزّع مساعدات غذائية على أبناء الجبل من كلّ الطوائف
هو الكاهن ابن الكاهن الذي درس في مقرّ البطريركية القديم في كفرحي المجاورة لقريته، وفي روما عرف كيف يوازن في علاقاته الخارجية قبل اندلاع الحرب، فيظهر الولاء للسلطنة والتعلّق لفرنسا. لكنّ قائد الجيش العثماني الرابع جمال باشا الذي ألغى نظام المتصرّفية وحكم المنطقة، كان بودّه أن يشنقه كسائر رجالات لبنان وسوريا الذين شكّ بهم أو حصل على إثباتات تؤكد سعيهم للانفصال عن الدولة العثمانية أو الاتصال بفرنسا. لكنّ تدخل النمسا وسواها حال دون تنفيذ رغبته. فاكتفى بوضع البطريرك في الإقامة الإجبارية في قرنة شهوان بعدما استدعاه مراراً إلى صوفر.
وفي الحرب العالمية الأولى، يسجّل للبطريرك الحويّك أنه فتح أبواب بكركي للجائعين، ووزّع مساعدات غذائية على أبناء الجبل من كلّ الطوائف، وأوكل إلى الخوري بولس عقل الذي أصبح من أشهر المطارنة لاحقاً عملية الاستحصال على مساعدات المغتربين لأهلهم من خلال زوارق كانت تخرق الحصار بين سواحل فتوح كسروان وجبيل وجزيرة أرواد، حيث كان مقرّ قيادة الأسطول الفرنسي. والضابط البحري أنطوان إدّه، شقيق الرئيس إميل إدّه، كان له لاحقاً دور رئيسي في تأمين الاتصال. والحويّك استطاع ضبط عمليات الإعاشة بإحكام. ويمكن القول إنّ نسبة كبيرة ممن بقوا على قيد الحياة بعد المجاعة، يدينون للبطريرك الذي لم يتردّد في رهن أملاك الكنيسة لحماية شعبه من الموت جوعاً.
قبل الاحتفال على مصطبة قصر الصنوبر بإعلان تحقيق أمنيته الغالية، كان على البطريرك الحويك أن يعبّر عن معاناة متعدّدة الوجوه مع فئة وازنة من القريبين منه، الذين رفضوا لبنان الكبير، وتمسّكوا بحدود المتصرّفية مع توسيعها بعض الشيء (إميل إده ويوسف الجميّل وغيرهما). وأيضاً عانى مع الذين ارتأوا انضمام لبنان إلى المملكة العربية السورية بقيادة الملك فيصل الأول، مع اقتراحهم نوعاً من الاستقلال الذاتي للمتصرّفية السابقة. وبين هؤلاء شقيقه سعد الله الحويك. لكنّ المعاناة الأكبر كانت مع الفرنسيين الذين ما كانوا مؤيدين لفكرة “لبنان الكبير”، ما حمل الحويك على تنظيم إرسال ثلاثة وفود إلى فرنسا ترأس أحدها بنفسه، وكان بعمر 76 عاماً، متحمّلاً مشقة عبور البحر على متن دارعة فرنسية مدى 15 يوماً.
في فرنسا أصرّ خلال لقاءاته، ومواقفه الضاغطة مع كليمنصو وفريقه، على ضمّ مناطق بيروت وشمال لبنان وجنوبه والبقاع إلى “لبنان الكبير”
وروى العميد الراحل ريمون نقلاً عن والده الرئيس إميل إده أنّ رئيس الحكومة الفرنسية جورج كليمنصو تصرّف برعونة عند استقباله البطريرك الياس الحويك على رأس الوفد الثاني. إذ رفض مصافحته وسأل مساعديه، وهو الراديكالي العلماني الذي يكره رجال الدين: “مَن هو البطريرك؟ أليس كاهناً عادياً؟”. أجابوه أنّه رئيس الكهنة، ويجب ألّا يرفض مصافحته بعد رحلة طويلة قام بها بطريرك الموارنة من ميناء جونيه إلى باريس على متن دارعة فرنسية استمرت 15 يوماً. إذذاك قَبِلَ بمصافحته.
في فرنسا أصرّ خلال لقاءاته، ومواقفه الضاغطة مع كليمنصو وفريقه، على ضمّ مناطق بيروت وشمال لبنان وجنوبه والبقاع إلى “لبنان الكبير”. لكن تياراً قوياً عبّر عنه أمين سر قوميسارية الشرق ريمون دو كيه كان يصرّ على جعل بيروت وطرابلس “مدينتين حُرّتين” أو “مفتوحتين” يتقاسم لبنان وسوريا إدارتهما. كما أنّ تياراً آخر في الإدارة الفرنسية كان يدعو إلى “لبنان أكبر” تصل حدوده إلى مشارف دمشق ويضم “وادي النصارى” في سوريا في إطار نوع من “حلف أقليات” بين دول أو كيانات ذات غالبية درزية ومسيحية وعلوية وسنية. لكن البطريرك تمسّك بخريطة 1862 التي وضعها الجيش الفرنسي عندما نزل في بيروت إثر مذابح الجبل، حدوداً للوطن المُشتهى.
وكانت دوافع الحويّك ثلاثية الأضلع:
– أولاً: أن يكون لبنان منسجماً مع تاريخه ، أقله منذ تأسيس أمارة جبل لبنان المعنية فالشهابية، بدءاً من السنة المفصلية 1516، عندما انتصر العثمانيون على المماليك.
– ثانيًا: إنشاء كيان قابل للحياة، لا سيما بعد وقت قصير على المجاعة الكبرى التي ضربت جبل لبنان بين عامي 1915 و 1918، والتي قضت على ثلث السكان، ولا سيما من الطائفة المارونية.
– ثالثًا: كان مقتنعًا تمامًا بأنّ اللبنانيين يستطيعون التغلّب على الانقسامات الدينية التي يمكن أن تنجم عن تخفيف النسبة الديموغرافية للمسيحيين في “جبل لبنان”، مع اندماج المناطق التي يغلب عليها المسلمون.
وفي إحدى الرسائل التي كُشفت ونُشرت أخيراً يتوجّه الحويك إلى عصبة الأمم بالتشديد على أنّ دولة لبنان سوف تكون منارة لشعوب هذه المنطقة من العالم، حيث للمرّة الأولى في تاريخها سيعلو الولاءُ الوطني على الولاء الديني.
لم تتحقّق هذه النظرة إلا جزئياً. لكنّ الرهان عليها كان ولا يزال يستحقّ.