من مفارقات التاريخ أنّ لبنان مرّ بأزمتين كبيرتين بعد انتهاء الحرب الأهلية، الأولى كانت في العام 2005 عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والثانية تزامنت مع صدور حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في جريمة الاغتيال هذه. أي أنّ الأزمتين مترابطتان على نحوٍ وثيق بوصفهما أزمتين سياسيتين ذات جذر واحد، وهو محاولة الجهات، التي قالت المحكمة إنّها استفادت من اغتيال الحريري، للاستيلاء على لبنان من ضمن استراتيجية إقليمية لا تقيم حدوداً سياسيّة ولا أمنية بين دول المنطقة.
إقرأ أيضاً: نداء البطريرك ودعوة المفتي يساويان دولة؟
لكنّ الفارق أنّه في العام 2005 ما ذهب السجال السياسي باتجاه أسس الدستور والنظام السياسي على النحو الحاصل اليوم، إذ تكثر الطروحات التي تدعو إمّا إلى تطوير النظام وهو ما دعا إليه جبران باسيل الأحد الماضي مع ما يحمله هذا المفهوم من إبهام وضبابية، وإمّا إلى استبداله كما يعرض المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان.
وسط هذا المناخ السياسي المضّطرب، أعلن البطريرك الماروني بشارة الراعي “مذكّرة لبنان والحياد الناشط” كترجمة عملية لندائه الثلاثي في 5 تموز الماضي، الذي ناشد فيه رئيس الجمهورية “فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني”، ودعا الدول الصديقة لـ”الإسراع إلى نجدة لبنان كما كانت تفعل كلما تعرض لخطر”، وطالب الأمم المتحدة العمل على “إعادة تثبيت استقلال لبنان ووحدته، وتطبيق القرارات الدولية، وإعلان حياده”.
تكثر الطروحات التي تدعو إمّا إلى تطوير النظام وهو ما دعا إليه جبران باسيل، وإمّا إلى استبداله كما يعرض المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان
غير أنّ البطريرك الراعي اكتفى في مذكرته تلك بالبند الثالث من ثلاثيته، ولم يتطرّق إلى البندين الآخرين، وخصوصاً البند الأوّل المتعلّق بفكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني بما يعنيه من تزامن سياسي للمذكرّة لجهة ربطها على نحوٍ أكثر تعييناً بالأزمة السياسيّة الراهنة.
أي إنّ البطريرك، وإن انطلق في مذكّرته من الأزمة الراهنة وتداعياتها لاسيّما في النواحي الاقتصادية الاجتماعية، إلّا أنّه وضعها في إطار تاريخي عاد خلاله إلى بدايات الجمهورية اللبنانية حيث اعتبر أنه “ربَّما حيادُ لبنان، كنظام دستوري، لم يكن حاضراً في ذِهنِ مؤسِّسي دولة لبنان الكبير، لكنَّه كان حاضراً كسياسة دفاعيّة وخارجيَّة”. ثمّ رأى أنّ “هذه النَّزعة تأكّدت سنةَ 1943 حين أعلنَتْ حكومةُ الاستقلال أنَّ لبنان يَلتزِم الحيادَ بين الشَّرق والغرب”. وإذ ذكّر بتأكيد الأعمال الإعدادية لميثاقِ جامعةِ الدولِ العربيَّة أنَّ “لبنان دولة مساندة، وليس دولة مواجهة”، أشار إلى مضمون “إعلان بعبدا” الصادر في 12 حزيران 2012، والذي تضمّن بوضوح عبارة “تحييدِ لبنان”.
والحال، فإنّ البطريرك الراعي ما تطرّق إلى “اتفاق الطائف” لناحية حسمه “النفيين” اللذين تضمّنهما الميثاق الوطني، وذلك بتأكيده على أمرين: لبنان عربّي الهوية والانتماء ووطن نهائي لجميع أبنائه. إنّما عندما تطرّق إلى “الطائف” ذكر منه “انتقال السُّلطة التَّنفيذيَّة من رئاسة الجمهوريَّة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً وباعتماد المناصفة العدديَّة في المجلس النِّيابيّ”، مردفاً أنّ “جميع التَّسويات السِّياسيَّة والدستوريَّة أوقفت الحرب لكنَّها لم توقف الصِّراع، لا بل تفاقم بعد كلِّ تسوية، إذ تضمَّنت التَّسويات في طيَّاتها بذور نزاعاتٍ مستقبليَّة”.
المفتي دريان ينطلق من قراءته لمسألة الحياد من اللحظة السياسيّة الراهنة بمعنى أنّ شرط الحياد بالنسبة إليه، هو وجود دولة، ونظام عام، وسيادة، واستقلال، واحترام للدستور
وهذا ما يطرح سؤالاً أساسياً عن موقف البطريرك – ما دامت المذكّرة لم تصدر عن مجلس المطارنة الموارنة – من الطروحات بخصوص تطوير النظام السياسي أو استبداله؟ إذ يستدلّ من السردية التاريخية لـ”مذكّرة الحياد” على أنّ “وثيقة الوفاق الوطني” لم تكن بمثابة المحصّلة السياسية الدستورية التاريخية لـ”التجربة اللبنانية”، منذ دستور العام 1926، مروراً بـ”الميثاق الوطني”، وصولاً إلى “اتفاق الطائف”، الذي أنهى الحرب الأهلية بوصفها حرباً كان أحد أسبابها الرئيسية خلاف اللبنانيين على نظامهم السياسي. وإلّا لماذا العودة إلى دستور العام 1926؟
ثمّ هناك سؤال ثانٍ تطرحه المذكّرة وهو: “إلى أي حدّ ينسجم البُعد الثَّاني من أبعاد الحياد البطريركي الذي ينصّ على تعاطف لبنان مع قضايا حقوق الإنسان وحرِّيَّة الشُّعوب، ولا سيَّما العربيَّة منها، مع مقدمّة الدستور لجهة نصّها على أنّ لبنان عربّي الهوية والانتماء؟ فهل يلخّص التعاطف موجبات الانتماء؟”.
لكنّ البعد الثاني لا يختصر البعدين الآخرين: الأوّل ينصّ على عدم دخول لبنان قطعياً في تحالفات وصراعات سياسية وحروب إقليمياً ودولياً، وامتناع أيّ دولة عن التدخّل في شؤونه أو الهيمنة عليه أو احتلاله، والثالث يدعو إلى تعزيز ?الدولة اللبنانية? لنكون دولة قوية بجيشها ومؤسساتها وعدالتها ووحدتها الداخلية كي تضمن أمنها الداخلي من جهة وتدافع عن نفسها تجاه أيّ اعتداء يأتي سواء من ?إسرائيل? أو غيرها.
ولعلّ ترتيب الأبعاد الثلاثة تلك، هو ما يشكّل نقطة تمايز أو اختلاف بين مقاربة كلٍّ من البطريرك ومفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان لمسألة حياد لبنان. إذ سأل المفتي في رسالته إلى اللبنانيين لمناسبة حلول رأس السنه الهجرية: كيف يكون حياد في غياب دولة ونظام عام، واحترام للدستور، وتطبيق للقوانين، واحترام للسيادة، وتمسّك بالاستقلال؟
الراعي ودريان يلتقيان على نقاط سياسيّة أساسيّة في مقاربة الأزمة الراهنة، مع فارق أساسي بينهما أنّ دريان يطالب بقانون انتخابات جديد بينما الراعي يرضى بالحالي
أي أنّ المفتي دريان ينطلق من قراءته لمسألة الحياد من اللحظة السياسيّة الراهنة لا من حيث تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية وحسب، بل من حيث أسبابها السياسية، بمعنى أنّ شرط الحياد بالنسبة إليه، هو وجود دولة، ونظام عام، وسيادة، واستقلال، واحترام للدستور. وهذا مغزى حديثه عن “أنا قد لا نحتاج إلى الحياد إذا بنينا دولة قوية وعادلة، ومعزّزة بالوحدة والتماسك الداخلي. أمّا إذا بقينا على انقسامنا ولم نبنِ دولة، فلن يفيدنا أيّ حياد حتماً”. وليس قليل الدلالة في السياق تذكير دريان بـ”الانقلاب” على مبدأ النأي بالنفس، و”هو الوجه السياسي لنظام الحياد القانوني”.
لكن، وعلى الرغم من التمايز المذكور بين الراعي ودريان غير أنّهما يلتقيان على نقاط سياسيّة أساسيّة في مقاربة الأزمة الراهنة، خصوصاً لجهة المطالبة بتحقيق دولي في جريمة انفجار مرفأ بيروت، والدعوة إلى حكومة إنقاذية، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، مع فارق أساسي بينهما أنّ دريان يطالب بقانون انتخابات جديد بينما الراعي يرضى بالحالي.