الرهان على إصدار المحكمة الدولية حكماً سياسياً، لم يكن خاطئاً فقط، إنّما كان فيه الكثير من الضعف والهروب من المسؤولية الوطنية. من خاب أمله من حكم المحكمة، يعني أنّه لم يكن على دراية سياسية كافية أو على جهوزية لازمة. المسؤولية الوطنية تقع على عاتق المؤمنين بالمحكمة ومن انتظر حكمها طيلة هذه السنوات، في بناء تصوّرهم السياسي لما بعد صدور الحكم، وليس انتظار الحكم ليحقّق لهم النتيجة السياسية التي يتمنّونها. فتحقيق النتيجة السياسية يرتبط بما يقدّمه هؤلاء لأنفسهم وللقضية التي اعتبروا أنفسهم ناضلوا في سبيلها. أما البكاء على الأطلال فسيضيع قضيتهم كما دماء شهدائهم.
إقرأ أيضاً: عن الحزب وآل كابون.. وعيد الحب!
لم يكن متوقعاً أن تصدر المحكمة حكماً بحق الأمين العام لحزب الله أو رئيس النظام السوري. ولم يكن ممكناً صدور حكم بحق حزب الله كتنظيم أو سوريا كدولة. وبالتالي فأيّ حكم لن يكون من مهامه “عزل حزب الله” أو المطالبة بحلّه دولياً. ومن كان يتوهم ذلك، فبسبب افتقاره إلى الفكر السياسي والمتابعة الدقيقة. وفق الحماسة المنتظرة يُفهم شعور الإحباط الذي أصاب البعض. وتأسيس الدفاعات وتعزيز المناعة من هذا الشعور، هو مهّمة من انتظر المحكمة للتأسيس على حكمها، لا انتظار الحكم وطيّ الصفحة.
سياسياً ودولياً، وبموجب الحكم، هناك مسؤولون في حزب الله اغتالوا الرئيس رفيق الحريري، واغتالوا باغتياله مشروعاً سياسياً
في السياق السياسي للحكم، ولما تحدّث به رئيس غرفة الدرجة الأولى، كان واضحاً أن حزب الله والنظام السوري لديهم علاقة مباشرة بعملية الإغتيال، ولم يكن بإمكان سليم عياش، الشخص الوحيد الذي أصدر الحكم بحقّه في تنفيذ الجريمة، أن ينفذها بدون دعم عسكري وأمني ولوجستي وقرار سياسي وربما فتوى دينية. توفرت الأدلة الكافية لإدانة عياش ولم تتوفر لإدانة الآخرين، ولم تحاكم المحكمة مصطفى بدر الدين على الرغم من ثبوت علاقته بالجريمة والتنسيق حولها والربط بينه وبين عياش، بحكم أنّه قُتِلَ في سوريا، ولا يمكن محاكمة متوفين.
سياسياً ودولياً، وبموجب الحكم، هناك مسؤولون في حزب الله اغتالوا الرئيس رفيق الحريري، واغتالوا باغتياله مشروعاً سياسياً. هذا المشروع تلقّى الكثير من الضربات والطعنات والتخاذل. الركون إلى شعور الهزيمة والخيبة بفعل حكم المحكمة، سيكون أيضاً من مشاهد التخاذل الجديدة في حقّ المشروع نفسه. علماً أن فرصة جديدة توفّرت لتجديده وكان يمكن أن تتكامل مع حكم المحكمة الدولية، وهي تفجير مرفأ بيروت، مع الإصرار على المطالبة بتحقيق دولي لكشف حقيقة ما حصل. كان يمكن لهذه الفرصة أن تستعاد باستعادة بيروت، احتضانها، وملء شوارعها بمريديها وناسها المؤمنين بمشروع الإعمار بمواجهة الدمار، وبناء تصور سياسي متجدّد ينطلق مما تفجر بعد اغتيال رفيق الحريري إلى ما بعد تفجير مرفأ بيروت، باستعادة الساحات، وأخذ المبادرة لتحقيق الفعل، بدلاً من الإنتظار والإستسلام.
النقاش في تفاصيل الحكم، والسرديات المتناقضة التي ستبنى لبنانياً عليه في سياقات التقاذف والمعارك السياسية، من شأنه أن يضيع القضية برمّتها، ويستنزف القدرة على التأسيس لمشروع سياسي ينطلق متجدداً ما بعد المحكمة وكل الأهداف التي تنامت ودفعت في سبيل إنشائها. وهو جزء من الضعف أيضاً والدليل على الإفتقار لأي مبادرة سياسية. أو ضعف في إدارة المعركة السياسية. بعكس حسن إدارة حزب الله لمعركته بوجه المحكمة، ولو أدّى ذلك إلى إدانة الحزب لنفسه، إذ أنّ المحكمة لم تتهمه مباشرة بالعملية، بينما اتهمت قياديين فيه، فيما الأمين العام للحزب أعلن أن المتهمين هم قادة في الحزب وستقطع اليد التي ستمتدّ إليهم. بشكل أو بآخر يمثل ذلك إدانة لحزب الله، لكنه يحافظ على سقفه السياسي ومعركته، تحت شعار واحد أن المحكمة لا تعنيه.
أكثر من ذلك،
قبل أيّام، تحدّث الأمين العام لحزب الله عن كلّ التطوّرات السياسية، من تفجير مرفأ بيروت، وصولاً إلى تشكيل الحكومة الجديدة. لكنّه ضمّن خطابه خمسة تهديدات مباشرة إلى قوى سياسية وشخصيات محدّدة، كاد أن يسمّيها، لكنّه عدل، واكتفى بالتمويه والإيحاء.
السقف السياسي جاء في سياق تهديدات خمسة ركّز عليها هي:
الأولى في الشكل، بعودته إلى رفع “الأصبع” الذي غاب لفترة ليست بسيطة، وعودة التهديد به، داعياً لزرع الغضب وجعله ينمو في أرضه حين يحين أوان قطفه، بعدما كان استكان عن لغة الوعيد في الفترة الأخيرة.
لا يمكن انتظار حزب الله “لتقديم التضحيات”، وفق ما دعا الرئيس سعد الحريري من على باب المحكمة في لاهاي أمس، بعد صدور الحكم. لأنّ سقف الحزب معروف وواضح
الثانية بتهديد النائب وليد جنبلاط، وكلّ من فكر بالاستقالة من المجلس النيابي، واتهامهم بأنّهم حاولوا “إسقاط الدولة”. فقد كان النائب مروان حمادة أوّل النواب المستقيلين.
الثالثة في الردّ على النائب نهاد المشنوق، حين هاجم “بعض المؤتمرات الصحافية” التي تقول “إنّ الذي يقف خلف العملية التخريبية هذه هو العدو الإسرائيلي”، واصفاً إيّاهم بأنّهم “طبعاً لا يريدوا إدانة إسرائيل بل يريدون إدانتنا نحن”.
الرابعة في الهجوم على الزميل مرسيل غانم، وكاد يسمّيه، حين قال إنّ هناك “الناس التي تجلس وتبزّق على التلفزيون مثلاً”.
الخامسة حين أعلن نعيه الحكومة الحيادية، بالقول إنّها “تضييع وقت”، متسائلاً: “من هو الحيادي؟” في لبنان.
بينما من تعنيه المحكمة، يفتقد للسقف السياسي الواضح ويسقط الأوراق القادر على مراكمتها من بين يديه. بدءاً من الحكم، وصولاً إلى السياق السياسي الذي قدمته المحكمة واعتبرت أن قرار الإغتيال جاء بعد لقاء البريستول أي إعطائه البعد السياسي المحلي والإقليمي، ما يفرض على المؤمن بالمحكمة انتهاج خطّ سياسي جديد قادر على تعزيزه في هذه المرحلة حول ضرورة تثبيت الحياد عن الصراعات الإقليمية، وثالثاً والأهمّ هو التفجير الزلزال لمرفأ بيروت، والذي يشبه زلزال اغتيال رفيق الحريري.
هنا لا يمكن انتظار حزب الله “لتقديم التضحيات”، وفق ما دعا الرئيس سعد الحريري من على باب المحكمة في لاهاي أمس، بعد صدور الحكم. لأنّ سقف الحزب معروف وواضح، وهو غير مستعد لتقديم أي تنازل طالما أنّه ثابت على موقف رفضه للمحكمة وكل ما يمت لها بصلة.
الأساس هو الانتقال إلى مرحلة المقاومة السياسية، والمبادرة في سبيل استعادة التوازن بداية، وإجبار حزب الله ليس على التضحية، بل على التنازل ودفع ثمن الجريمة سياسياً بالحد الأدنى، لأنها كانت جريمة سياسية وغيّرت الوقائع السياسية في البلد. لا يمكن لحكم المحكمة أن يصبح نافذاً إلا في مندرجاته السياسية، لأن معاقبة عياش وحكمه بالسجن المؤبد لن يعيد الروح إلى المشروع السياسي الذي اغتيل باغتيال رفيق الحريري. المشروع يحتاج إلى إرادة، والمشروعية متوفرة، بشرط توفّر الإدارة، وبذلك لا يعود للخيبة من المحكمة أي أثر.