من بدع أزمة الدولار، أنّ تقرأ خبراً على المواقع عن تغيّر في سعر صرف الدولار يوم الأحد، في حمأة منع التجوّل وإقفال المؤسسات كافة. فارتفاع سعر صرف الدولار وانخفاضه، لم يعد أمراً محصوراً بأيام العمل، أو أمراً صعباً أو ممنوعاً، منذ ظهور التطبيقات على الهواتف الذكية.
سابقاً، كان خفض سعر صرف الدولار ورفعه أمر مكلف ويتطلّب الأموال، إن بالليرة اللبنانية أو بالدولار، من أجل التأثير في العرض والطلب. ملايين الدولارات كان يجب أن تُضخّ، بسبب عرض كبير، أو مليارات الليرات تُضخّ بسبب طلب كبير، كي يتغيّر سعر الصرف. أما اليوم، فكبسة زر كفيلة بأن تتلاعب بأعصاب الناس في السوق السوداء.
عشرات التطبيقات بات اللبنانيون يتابعونها، تتخصَص في عرض سعر الدولار في “السوق السوداء”، موجودة في متجرين افتراضيين هما Google play وApple store، لكنّ أحداً لا يعرف من خلفها، وكيف حُمّلت على العالم الافتراضي، ومن سمح بذلك أو من غضّ الطرف عن بقائها هناك؟
البيانات تشير إلى أنّ محمّليها من المواطنين عددهم بمئات الآلاف (أكثر من 500 ألف)، وهذا الحجم من البشر كفيل بالتأثير في السوق من خلال التلاعب بنفسيات المتابعين والسيطرة على خوفهم.
أحد صرّافي “الفئة ب” في بيروت يقول في حديث مع “أساس” إنّ “تأثير هذه التطبيقات بداية الأزمة كان هامشياً”، لكنّها اليوم “باتت هي الجهة التي تفرض علينا سعر السوق. يأتي الزبون فيسألنا عن سعر الدولار وإذا كان السعر مختلفاً عمّا قرأه في هذه التطبيقات، يعترض ويحاجج… فنضطر نحن في نهاية المطاف إلى الالتزام بسعرها”. هذه التطبيقات هي الجهة التي صارت “ترسم السعر في الصباح وتلعب به صعوداً وهبوطاً خلال النهار، من دون أن نعرف من يقف خلفها وما هي الأهداف، وذلك بخلاف لعبة العرض والطلب المعتادة”.
البيانات تشير إلى أنّ محمّلي هذه التطبيقات من المواطنين عددهم بمئات الآلاف (أكثر من 500 ألف)، وهذا الحجم من البشر كفيل بالتأثير في السوق من خلال التلاعب بنفسيات المتابعين والسيطرة على خوفهم
بعض التقارير الاستقصائية بمساعدة خبراء الإنترنت، توصّلت إلى أنّ مؤسسيها موجودون خارج لبنان، لكن مشغّليها قد يكونون بيننا من دون أنّ نعلم. يقال ربما خلفها مصرف لبنان نفسه، أو ربما أحد الصرّافين، أو ربما جهة حزبية نافذة لها مصلحة في اللعب بسعر الصرف لمآرب سياسية… كلّ هذه الاحتمالات ستبقى مفتوحة طالما أنّ السلطات اللبنانية تقف وتتفرّج، وكأن الأمر لا يعنيها.
أبرز هذه التطبيقات هو USD Market الذي يقود التطبيقات الأخرى، بحسب الخبراء في هذا العالم. وهذا يعني أنّ مشغلّها واحد، أو على تواصل مع مشغّلي التطبيقات الأخرى، وهذا واضح من خلال مراقبة تحرّك الأسعار على الشاشات، إذ تؤكد ترابطها أنّ تعليمة واحدة غالباً، تصل إلى المشغّلين فتتغيّر الأرقام بلحظات قليلة وبفارق ثوانٍ.
قبل أشهر، أصدر المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، قراراً قضى بحجب 15 تطبيقاً هاتفياً مشابهاً، وذلك من خلال إبلاغ وزارة الاتصالات وهيئة “أوجيرو” بالقرار، فحجبتاها عن البوابات الدولية للإنترنت. كان المفروض أن يتولّى مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية متابعة تنفيذ هذا القرار، لكن قيل يومها، بحسبما نقلت وسائل إعلامية عن مصادر في وزارة الاتصالات، إنّ التجهيزات اللازمة لوقف هذه التطبيقات “غير متوافرة لدى هيئة أوجيرو”، وإنّ “وقف المواقع الإلكترونية حصراً هو الأمر المتاح، وقد تمّ فعلاً وقف الكثير منها، ولكن إيقاف التطبيقات أمر غير ممكن”.
أوقفت التطبيقات لمدّة يومين فقط، ومن ثم أُعيد تفعيلها بعدما تبيّن أنّ هذه العملية أثّرت على Google Play وApple store بكامله، لأنّ التجهيزات التي يمكن من خلالها تحديد الـIP ADRESS لوقف التطبيق المطلوب دون غيره من التطبيقات، غير متوفرّة!
يقول عضو نقابة صرّافي لبنان محمود حلاوي لـ”أساس”: “هذه التطبيقات هي المصدر الوحيد لتسعير الدولار اليوم بسبب انتشار الهواتف بين أيدي الناس. لكنّها مثل الشبح: نحن كيف نعرف أنّ الطلب رفع سعر صرف الدولار؟ أو كيف نعرف أنّ عرضه في السوق أدّى إلى هبوطه؟ لا أدلة على ذلك إطلاقاً”. يهزأ حلاوي من وجود سوق لسعر الصرف أيام الآحاد وفي ساعات متأخرة من المساء، فيقول: “هل يعقل أن يرتفع ويهبط الدولار مساء يوم الأحد، ونحن محجورون في المنازل وممنوعون من التجوّل؟”.
يضيف حلاوي: هناك نحو 6 أو 7 تطبيقات رئيسية فاعلة، كلّها مدروسة ومرتبطة بإعلانات وبمواقع… هي عالم قائم بذاته، وهذا يدّل إلى وجود جهات أنشأتها وتدفع أموالاً للاستثمار بها”. ولدى سؤاله عن عدم توقيفها من الأجهزة الأمنية يقول حلاوي: “الأمن العام أكد لنا في السابق أنّ هذه التطبيقات تعمل من خلال خوادم (servers) قد تكون خارج لبنان، ولذا لا يستطع كشفها أو السيطرة عليها”.
أبرز هذه التطبيقات هو USD Market الذي يقود التطبيقات الأخرى، بحسب الخبراء في هذا العالم. وهذا يعني أنّ مشغلّها واحد، أو على تواصل مع مشغّلي التطبيقات الأخرى، وهذا واضح من خلال مراقبة تحرّك الأسعار على الشاشات
لكنّ للخبراء رأياً آخر. “أساس” تواصل مع أكثر من خبير IT ومهندس اتصالات، فاتفقت آراؤهم على أنّ أجهزة الدولة قادرة على حظر هذه التطبيقات، بخلاف ما تدّعي، لكن حتى الآن لم تفعل، لأنّ “الجهة المشغّلة لهذه التطبيقات قادرة على تعطيل قرار كهذا على ما يبدو”. الأجهزة الأمنية تقول: “لا نعرف من يقف خلف هذه التطبيقات، لأنّ مشغّليها يملكون تقنيات تسمح لهم بالتهرّب من الملاحقة الإلكترونية كلّ فترة”، وهذا بحسب هؤلاء الخبراء ليس دقيقاً، أو لا يغطّي أوجه التحرّك كاملة.
إقرأ أيضاً: الدولار تحت الـ 6000 ليرة بعد تشكيل الحكومة؟
يؤكد واحد من هؤلاء الخبراء أنّ الأمر بحاجة إلى “قليل من التتبع بغية تقفّي أثر هؤلاء من خلال التطبيق وعبر ما يُسمى registering key، فهوية محمّل التطبيق على المتجر يفترض أنّها معروفة، وهذا كفيل بالكشف عن هوياتهم وإلقاء القبض عليهم”. أمّا إن كانوا خارج البلاد، “فمن الممكن مراسلة شركتي Google وApple ، وإلزامهما بحجب هذه التطبيقات بسبب تهديدها الأمن النقدي للدولة، وإنهما ملزمان بحجبها تحت طائلة الملاحقة ودفع التعويضات، خصوصاً إن كان القرار صادراً عن جهة قضائية”.
سابقاً، كان الحدث الأمني أو الحدث السياسي يفرض نفسه على التسعيرة. أما اليوم، فبات هناك من يستغلّ هذا الحدث كي يتلاعب بالتسعيرة بمعزل عن عملية العرض والطلب. أضف إلى ذلك أنّ الوسائط التكنولوجية قد سهّلت كثيراً مهمة هؤلاء في التلاعب، وما كان يتطلّب أموالاً طائلة لفعله باتت كلفته بخسة: تطبيق مع تغطية أمنية أو سياسية أو إهمال (إذا حسّنا الظنّ) فيصبح التلاعب بأعصاب الناس لتشليحهم دولاراتهم فعلاً ولا أسهل…