بقلم جان بيار فيليو (Jean-Pierre Filiu)، جريدة “لوموند” الفرنسية.
من النادر أن يلاقي رئيسُ دولة نظيرَه الأجنبي بوجه متجهّم، وهو الذي جاء يقدّم العون له في خضمّ كارثة وطنية. هذا هو حال ميشال عون خلال استقباله إيمانويل ماكرون، بعد أقل من 48 ساعة من وقوع الانفجار المزدوج، في 4 آب، الذي قتل 177 شخصاً على الأقل، وترك أكثر من 300 ألف آخرين دون مأوى في قلب بيروت.
كان الرئيس اللبناني سيكابد المشقة لو زار المكان، بسبب استجواب المحتجّين له في كارثة كهذه، في حين أنّ نظيره الفرنسي لقي الترحاب الحارّ من مجموعة غاضبة.
ما كاد ماكرون يعود إلى باريس، حتى رفض عون الطرح الفرنسي بتشكيل لجنة تحقيق دولية، مع اعتماده فرضية إطلاق صاروخ على المرفأ، ناسباً ذلك إلى إسرائيل ضمناً. برفض الشفافية، وبهذه المزاعم التآمرية، يحاول عون إغفال واقعة أنه منذ 20 تموز، تلقّى تحذيراً من مخاطر انفجار كارثي هناك. وعلى نحوٍ أعمّ، يجسّد رئيس الدولة، لا سيما منذ استقالة الحكومة، معارضة حازمة من طرف الطبقة السياسية، للإصلاحات التي شجّعت عليها فرنسا. من أجل إدراك مفارقة كهذه، من المناسب العودة ثلاثة عقود إلى الوراء لتاريخ مضطرب بين عون وفرنسا.
في آذار 1989، أعلن الجنرال ميشال عون، حين كان قائداً للجيش، “حرب التحرير” ضدّ سوريا. فكان عاقبة ذلك انقسام البلد بين حكومتين، واحدة بقيادته، والأخرى تؤيد دمشق. هو نفسه، الماروني، تسبّب بانقسام المعسكر المسيحي، عبر صراع دموي بين أنصاره وبين القوات اللبنانية. أما حافظ الأسد، الذي كانت قواته تحتلّ جزءاً كبيراً من لبنان منذ عام 1976، فدعم القوات اللبنانية ضدّ “العونيين”. وفي خريف عام 1990، قبل الأسد الانضمام إلى التحالف من أجل تحرير الكويت، التي احتلّها العراق، مقابل دعم أميركي له لتصفية المقاومة المعادية لسوريا في لبنان.
في عام 1990 كما في عام 2020، لم تولِ الولايات المتحدة أيّ أهمية للبنان، إلا بمقدار ما يكون مجرّد ورقة لاستغلالها في المواجهة مع العراق عام 1990، ومع إيران، بعد ثلاثين سنة.
ليست هذه حال فرنسا، فهي بقيادة فرانسوا ميتران في عام 1990، كما بقيادة ماكرون، في عام 2020، رفضت التعامل مع لبنان، كعامل متغيّر في تسوية الصراعات الشرق أوسطية. إنّ الرئيس الاشتراكي (ميتران) لم يتردّد عام 1990، في مقارنة الاحتلال العراقي للكويت باحتلال سوريا للبنان، وفي الحكم على الاحتلالين معاً بأنهما لا يمكن التسامح معهما.
لكن الضوء الأخضر من البيت الأبيض للأسد سمح للجيش السوري بسحق الجيب المعزول “العوني”، في تشرين الأول عام 1990. الجنرال المخلوع، وقد بات ملاحقاً من المحتل السوري، وجد الملاذ في السفارة الفرنسية. وبقي فيها عشرة أشهر حتى تولّت الاستخبارات الفرنسية تهريبه إلى مرسيليا، فإلى باريس. ومن العاصمة الفرنسية، نظّم عون تياره الوطني الحرّ، الخصم المعلن للقوات اللبنانية في المجتمع المسيحي.
عندما عاد عون إلى لبنان، عام 2005، ظلّ مقتنعاً بمصيره كرجل العناية الإلهية، لكنه قرّر هذه المرة اللعب لمصلحة دمشق، وكان بشار الأسد، قد خلف والده حافظ قبل خمس سنوات. وبينما أطلقت “ثورة الأرز” مئات الآلاف من اللبنانيين في الشوارع، وأجبرت الوجود السوري على إخلاء البلد أخيراً، عقد عون تحالفاً بين تياره وبين حزب الله في جبهة موالية لسوريا وغير مسبوقة. حتى إنّ السبعيني الطامح، زار دمشق، عام 2008، كي يتعهّد بالولاء للأسد. وتجلّى هذا الاصطفاف خلال الثورة السورية عام 2011، فاتهم عون معارضي نظام الأسد بـ”الإرهاب”، ودعم تدخّل حزب الله في سوريا. وأتاحت سنوات من المناورات السياسية وصوله إلى رئاسة الجمهورية عام 2016. سلّم التيار الوطني الحرّ إلى صهره جبران باسيل، وأصبح وزيراً للطاقة (2009-2014)، ثم وزيراً للخارجية (2014-2020). وهو يطرح نفسه وريثاً رسمياً لرئيس الجمهورية.
بات واضحاً الآن أنّ عون يغذّي عداوة معيّنة تجاه فرنسا. ومن المؤلم بالنسبة إليه أنّ باريس دعمته لما كان عليه عام 1990، حين كان يرفض ما أصبح عليه منذ عام 2005. لكنه عون الذي أدار التحوّل الاستراتيجي، وبقيت فرنسا وفيّة لتضامنها التاريخي مع لبنان وشعبه. بالتأكيد ليس عون السياسي اللبناني المنفرد بانتكاساته المذهلة. لكنه هو الذي كان يجسّد فكرة معيّنة عن الاستقلال اللبناني، وقد أصبح اليوم الشخصية الرائدة في نظام مكروه من الشعب. وصهره كذلك متهم من المتظاهرين بتدبير إفلاس شركة الكهرباء، وكلّ ذلك لمصلحة أصحاب مولّدات الكهرباء كي يفرضوا تسعيرتهم على المستهلك اللبناني.
لن يغفر عون، وعمره اليوم 85 سنة، أبداً، ومن دون شكّ، إنقاذ فرنسا له، قبل ثلاثين عاماً. هذا الاستياء المتناقض، يعقّد تحديد شروط الخروج من الأزمة في لبنان، وهي التي تحتاج إليها بشدّة الأغلبية الساحقة من الناس.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا