حرص رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، قبل الإعلان عن تشكيل حكومته الأخيرة، على الإيحاء بأنّ الشخصية التي سيختارها لتولّي حقيبة الداخلية ستشكّل نوعاً من المفاجأة الإيجابية غير المتوقّعة وغير المسبوقة. لم تكن تلك الشخصية سوى الخبيرة الاقتصادية ريّا الحسن التي كانت أول سيدة تتولّى هذا المنصب في تاريخ الحكومات اللبنانية والعربية.
إقرأ ايضاً: ماجدة الرومي: اللبنانية الأولى
سعى الحريري من خلال هذا التوزير، الذي شكّل مفارقة لافتة، إلى أن ينسب لنفسه إقدامه على خطوة غير مسبوقة، وعلى تأليف مشهدية تسترضي الحركة النسائية في لبنان، وتساهم في صناعة صورة يمكن بيعها وتسويقها في العالم ضمن مجال العلاقات الخارجية.
من خلال صورة رجال أشدّاء بأزيائهم العسكرية وعضلاتهم المفتولة يقدّمون التحية لامرأة أكاديمية أنيقة، أراد تسويق صورة عن بلد تخضع فيه القوة العسكرية لحكم القانون، وأن يُظهر قدرته على رعاية دور وحضور جديد للمرأة في الميدان السياسي، وفي وزارة ذات طابع أمني عسكري، وأن ينسب كلّ هذه الكتلة الضخمة من الإيجابيات إلى شخصه ومشروعه.
على الرغم من إعلانها عن عجزها عن التحكّم بمسار العنف، نُسب جزء مهمّ منه إليها، ما حمّلها وحمّل نضال المرأة اللبنانية، الذي كان من المفترض أن يمثّل موقعها تتويجاً أوّليّاً لنضالاته، ما لا يحتمله من مسؤولية عن رصاص مطاطي فقأ عيون المتظاهرين
لم تدم تلك الحفلة طويلاً. سرعان ما وجدت الوزيرة المسالمة نفسها والتي أرادت “أنسنة” الوزارة في مواجهة البنية العميقة للعسكرة الخارجة على سلطة الدولة، والتي اجتهدت على امتداد فترة زمنية طويلة على إحالة أيّ ملمح عسكري شرعي ورسمي إلى التقاعد المقنّع.
اصطدام وزيرة الحريري بثورة 17 تشرين، ضرب كلّ الحالة التي كان الحريري يجتهد في بنائها. بدت الوزيرة، التي كان من المفترض أن يشكّل حضورها على رأس وزارة الداخلية حالة ريادية، أسيرة لعسكر “الثنائي الشيعي” القادر على صناعة عنف لا تستطيع ردّه، ولا التأثير فيه، ولا مواجهته.
على الرغم من إعلانها عن عجزها عن التحكّم بمسار العنف، نُسب جزء مهمّ منه إليها، ما حمّلها وحمّل نضال المرأة اللبنانية، الذي كان من المفترض أن يمثّل موقعها تتويجاً أوّليّاً لنضالاته، ما لا يحتمله من مسؤولية عن رصاص مطاطي فقأ عيون المتظاهرين، وأدمى قلوب الأمهات، وحرص أن يجهض ثورة قامت ضد طبقة حاكمة لم تعد تستطع كوزيرة في الحكومة الانفصال عنها. وإن كان وزراء رجال واجهوا الوضع نفسه، دون أن يستطيعوا أكثر مما فعلت الحسن من علنية الاتهام.
لم تنفع كلّ محاولات التبرير في أن تعيد للوزيرة وجهها البريء أو سيرتها العلمية. تصريحاتها المتتالية حول خروج الجهاز المسؤول عن عمليات القمع، أي جهاز شرطة مجلس النواب، عن سلطتها، وتأكيداتها على أنها ستفتح تحقيقات جدّية حول تجاوزات جهاز شرطة مكافحة الشغب، وخصوصاً بعد أن ردّت أسباب تجاوزاته إلى التعب، ونقص التدريب.
بعد حكومة الحريري التي كانت الحسن واجهتها النسائية الأبرز، حرصت الجهة المنتجة لحكومة دياب على أن تصنع مهرجان حضور نسائي سداسي الأركان، يجعل من سابقة سعد الحريري بتوزير الحسن، يبدو وكأنه مقارنة بين مهرجان ريفي في ضيعة نائية بحفلة لفرقة البيتلز في عزّ شهرتها.
فجأة، وجد اللبنانيون أنفسهم أمام حكومة يعلم القاصي والداني أنها تمثّل الظلّ الرسمي لحزب الله، ولكنها تضمّ حضوراً وزارياً نسائياً بنسبة 30%من عدد وزاراتها البالغ 20 مقعداً.
شهدنا منح حقائب الدفاع، والمهجّرين، والإعلام، والعمل، والشباب والرياضة، والعدل، لسيدات، يمثّل العمل المؤسساتي والخبرة الأكاديمية القاسم المشترك بينهن.
أحاطت عبد الصمد نفسها بهالة تظهرعلى الدوام في هيئة احتفالية مهرجانية، ولم تجد غضاضة في أن يغدق عليها الإعلام صفات الغنج والدلع والجمال
تمّ الدفع بهذه الصورة العامرة بالحضور النسائي إلى واجهة مشهد حكومة دياب للتغطية على قبح الخلفية الصانعة للحكومة، وضبابية المشروع الذي تتبنّاه وتدافع عنه، الذي لا يعكس في روحه وعمقه سوى الوجه الدموي والمدمّر لحزب الغلبة والسلاح.
أداء الوزيرات في هذه الحكومة كان محكوماً بمعادلات بائسة، وبقين مجهولات لديه ما خلا بعض الإطلالات أو التصريحات التي كانت غالباً تستجرّ النقمة. وقد برز بشكل خاص الحضور النافر لوزيرة الإعلام منال عبد الصمد، كما استقرّت مؤخراً في ذهن اللبنانيين صورة وزيرة العدل المطرودة من شوارع الجميزة المدمّرة.
أحاطت عبد الصمد نفسها بهالة تظهرعلى الدوام في هيئة احتفالية مهرجانية، ولم تجد غضاضة في أن يغدق عليها الإعلام صفات الغنج والدلع والجمال. لكن في المقلب الآخر من الصورة المهرجانية، كان هناك سياق أسدي يتبلور. فقد اعتبرت الوزيرة “الجميلة” في تصريح لها أنّ حقوق الصحافيين يجب ألا تكون مضمونة إلا في حال عدم مساسهم بالأمن القومي والكرامات. وقد يكون من نافل القول التذكير بما في تهمة المسّ بالأمن القومي من سياقات أسدية.
لا تستثنى وزيرة الدفاع هنا، لكن تجنّبها الإعلام لفترة طويلة من توزيرها، خفّف كثيراً من الأدلّة الكافية للشكوى
كذلك كان اصطدام الوزيرة الأنيقة بالمجال العام مفزعاً في دلالته على حجم انقطاعها عنه وانفصالها عن أبسط تفاصيله ، فقد ظهرت في فيديو مصوّر في سوبرماركت وهي تبكي قائلة: “نحنا عمنجوع شو بعدنا ناطرين؟”. من دون أن يفهم أحد من المقصود بـ”نحنا”. كما راحت تعقد مقارنات بين أسعار السلع الحالية وما تذكره من أسعارها القديمة مظهرة أقصى درجات الذهول والاستهجان. لكنّ جولة صغيرة على موقعها المهني والعائلي، تكشف أنّها ليست في الموقع الذي حاولت أن توحي به، فهي خرّيجة جامعة السوربون، وزوجة رجل أعمال ثري يكره الظهور الإعلامي.
ذلك الاصطناع تلك الصورة التي فلشتها الصمد أمام الكاميرات، واجهتها مواطنة التقت بها خلال جولتها، فبادرتها قائلة: “خربتولنا حياتنا وعيشتنا” لتردّ الوزيرة متفاجئة: “أنا؟”، لتعود المواطنة، وتقول لها: “ما كان لازم تقبلو تجو”.
لا تستثنى وزيرة الدفاع هنا، لكن تجنّبها الإعلام لفترة طويلة من توزيرها، خفّف كثيراً من الأدلّة الكافية للشكوى.
ربما تختصر هذه الجملة الأخيرة واقع ما أفرزه زجّ النساء في حكومتين من ضربة كبيرة لنضال نسائي يعود تاريخه إلى لحظة تأسيس لبنان الكبير عام 1920.
بعد أن كانت النضالات النسوية قد شرعت بتحقيق إنجازات جدّية على مستوى القوانين، وبعد أن نجحت المرأة اللبنانية في أن تخلق لنفسها حضوراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً بارزاً، كان ينتظر أن يكون العمل الحكومي تتويجاً لها، لكن خرجت تجربة المرأة في حكومتي الانهيار بوصفها جزءاً من مشهده البائس.