إلى المودعين: هكذا خسرتم أموالكم

مدة القراءة 8 د


في رحلة البحث عن مصير الودائع المتبخرة، تكثر السبل والنتيجة الحتمية واحدة، أكثر من 75% من أموال المودعين استخدمت في توظيفات لدى مصرف لبنان، على شاكلة هندسات مالية، إفساحاً في المجال وشراءً للوقت لمتغيّرات في السلطة، كي تعمل على معالجة مكامن الخلل المؤدّي إلى مديوينة متزايدة. متغيرات قد تكون على شاكلة إصلاحات بنيوية، تعيد تحريك ماكينة الاقتصاد، لخلق الأموال، وإعادة الودائع إلى أصحابها.

هذا ما يردّده دائماً حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على مسامع سائليه عن مصير أموال المودعين.

إقرأ أيضاً: القطاع المصرفي بعد الهيكلة: دمج طوعي و5 سنوات “سماح”

الحاكم حيّر مؤسسات الائتمان الدولية، بعرض أرقام عن موجودات قابلة للاستعمال، أقرب إلى الخيال. وها قد وصلنا إلى عجز كبير في ميزان المدفوعات، تُرجم بتراجع دراماتيكي في سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الاميركي، بسبب الشّح في العملة الخضراء، في بلد أكثر من 74% من اقتصاده “مُدولر”، ويعيش على استيراد معظم حاجياته، من بزرة البصل وصولاً إلى الشاحنة.

ربما كانت المساعي لتحميل سلامة مسؤولية ما آلت إليه الأمور وحده، وتبرئة البقية، ما دفعه إلى هذا العرض، فضلاً عن تحميل المصارف مسؤولية سحوبات وصلت إلى 6 مليارات دولار خلال فترة الإقفال، على حدّ قوله

إذاً العين على ميزانية مصرف لبنان، أو بالأحرى على موجودات ومطلوبات مصرف لبنان. منذ العام 2018، سلطت أضواء مؤسسات الائتمان الدولية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأهم وحدات الدراسات الاقتصادية في كبرى البنوك العالمية، لا سيّما الاميركية منها على موجودات مصرف لبنان.

فما هو الحجم الحقيقي لموجودات مصرف لبنان؟

الهزّة الأولى لليرة اللبنانية أمام الدولار الاميركي، كانت في شهر آب 2019، وحينها كسرت حاجز الـ1517 لأول مرة مسجّلة 1547 ليرة للدولار الواحد مع تحديد سقف للسحوبات بالعملة الخضراء من المصارف اللبنانية.

بدأ سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية يتذبذب، ويأخذ منحىّ تصاعدياً، إلى أن جاءت ثورة 17 تشرين الأول. وكانت الشرارة التي عرّت رعونة القطاع المصرفي اللبناني. ونبّهت المودعين للسؤال عن مصير أموالهم في البنوك اللبنانية

ومن أبرز التقارير حول موجودات مصرف لبنان، ما صدر في العام 2019 عن وكالة “ستاندرد أند بورز” قالت فيه إنّ “احتياطات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية تسجل عجزاً بقيمة 6 مليارات دولار، وهي عاجزة عن تمويل حاجات لبنان التمويلية بالعملات الاجنبية، في السنوات الثلاث الآتية”.

ضبابية الوضع المالي، وتقاذف التُّهم، بين المصارف ومصرف لبنان والحكومة اللبنانية، دفع يومها لجنة المال النيابية، في الأيام العشرة الاخيرة، من العام 2019، إلى تكثيف لقاءاتها، للبحث في مصير أموال المودعين، أو بعبارة أخرى للبحث عمن سيلبس طربوش مسؤولية تبخّر هذه الأموال. وجلست عناصر مثلّث بارمودا الثلاثة، أي الحكومة ومصرف لبنان، وجمعية المصارف، على طاولة واحدة بمعيّة لجنة المال النيابية. خلال هذا الاجتماع، أعاد سلامة التأكيد أن لا مشكلة سيولة أو ملاءة ولا تعثّر للمصارف، وأنّ ما وصلنا إليه هو نتيجة الأجواء السياسية الضاغطة في البلاد. وقال إنّ “الأحداث بدأت منذ العام 2017 مع استقالة الرئيس سعد الحريري، و11 شهراً من التأخّر في تشكيل حكومة العام 2018، وحادثة قبر شمون في العام 2019. وإنّ هذه الاحداث فرملت الاصلاحات الاقتصادية والمالية وساهمت بمزيد من نزف ميزان المدفوعات”.

وتابع سلامة إنّ مجموع أموال المودعين كان يبلغ 127 مليار دولار، بينها 22 ملياراً أموال خاصة للمصارف مودعة في مصرف لبنان وفي المصارف المراسلة، و40 مليار دولار من العملة الأجنبية هي موجودات مصرف لبنان، و50 مليار دولار ديون للقطاع الخاص، و15 ملياراً سندات يوروبوندز. هكذا فنّد سلامة مجموع الأموال.

كان سرداً لللأحداث وعرضاً بعيداً عن الواقع. ربما كانت المساعي لتحميل سلامة مسؤولية ما آلت إليه الأمور وحده، وتبرئة البقية، ما دفعه إلى هذا العرض، فضلاً عن تحميل المصارف مسؤولية سحوبات وصلت إلى 6 مليارات دولار خلال فترة الإقفال، على حدّ قوله.

في الثلاثين من حزيران من العام الحالي، صدر تقريران لـ”ديليوت” و”ارنست أند يونغ” يكشفان تلاعب مصرف لبنان بميزانيته، بأساليب ملتوية، بين ما يعرف بالـOTHERS   ASSETS  وبالمحصّلة ودون الدخول في التقنيات المعقدة، والعبارات الرنانة المستحدثة من المصارف التجارية ومصرف لبنان، هنالك موازنة منفوخة، بأرقام وهمية، لإطفاء خسائر أو مطلوبات بطرق حسابية، غير مألوفة سواء في بازل ثلاثة أو حتى معيارIFRS9.

هي “هندسات تجميلية”، توضع في خانة “التلاعب” كي نحافظ على البطل من كرتون المسمى القطاع المصرفي اللبناني. وبين التلاعب في الحسابات وطبع العملة اللبنانية المتفلّت، الذي قد يؤدّي بنا إلى حالات مشابهة لما حصل في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، أو الأرجنتي، فتضطرّ لنحمّل الليرة اللبنانية بوحدة قياس الكيلو أو الكيلوين لنشتري على سبيل المثال زجاجة حليب.

يفنّد خبير بالشؤون المصرفية لـ”اساس” (طلب عدم الكشف عن اسمه)، لبّ مشكلة المصارف في لبنان، فينطلق من كون الميزانية بشكل عام، وعلى الرغم من تشعباتها، تتألف من موجودات ومطلوبات. وإذا أخذنا كلّ ميزانية خاصة بكل مصرف على حدة، نجد أنّ المطلوبات على المصارف اليوم أعلى من موجوداتها. وهنا تكون المصارف في حالة إفلاس وليس حالة تعثر، لأنّ التعثر مرتبط بمشكلة السيولة، وخير دليل على ذلك حجبهم الدولار عن المودعين واستبدالها بسحوبات بالليرة اللبنانية. والمصارف في لبنان اليوم تعاني من مشكلة في السيولة والملاءة ومن خسارة كبيرة جداً. مثلاً سندات اليوروبوندز، السعر الرسمي لها هو 100 دولار في 2025، أمّا  قيمتها السوقية اليوم فهي أدنى من ذلك بكثير. وإذا أرادت المصارف تسييلها لتأمين أموال فحتماً ستبيعها على سعر السوق. وهنا لا يمكن أن نحتسب هذه السندات بموجودات وعلى سعر 100 دولار .

يتابع الخبير سرده للوقائع فيقول إنّه في كلّ مصارف العالم، تنويع التوظيفات ضروري لتجنّب الإفلاس وهو واحد من أهم معايير العمل المصرفي. هذا ما لم تلتزم به المصارف في لبنان، إذ إنّ 70 في المئة من أموال المودعين استخدمت كديون للدولة اللبنانية

وبالعودة إلى حسابات مصرف لبنان، فقد وجدت كلّ من “ديلويت” و”ارنست أند يونغ”، بحسب  الخبير، نقاطاً محورية، مشكوكاً بصحتها، ومنها مسائل لم تستطع التأكد منها بشكل تام. بحيث تأكّدوا من نسبة ودائع المصارف بنسبة 90 بالمئة، وودائع الحكومة بنسبة 30 في المئة. ما يعني أنّ هنالك شكّاً بصدقية هذه الأرقام من قبلهم. هنالك أيضاً الاحتياطي الإلزامي لمصرف لبنان، الذي كان في العام 2017، 21  مليار دولار، فيما أصبح في العام 2018، 30 مليار دولار أي بزيادة 9 مليار دولار. وهنا لا بدّ من العودة إلى العام 2015، حين زارت لبنان بعثة من صندوق النقد والبنك الدولي، وقدّرت يومها احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية ناقص -5.7 مليار دولار. وهذا الكلام يعني أنّه بين عامي 2016 و2018، ارتفع الاحتياطي السلبي 24 مليار دولار. وهذه الأموال هي ودائع الناس التي صُرِفت.

المسألة الأهم أنّه تحت بند الـ OTHER ASSETS أو “الموجودات الأخرى”، والمقدّرة بـ43 مليار دولار، هنالك 6.2 مليار دولار وضعت بقرار شخصي من الحاكم. مصدر هذه الأموال غير معروف، وحجّة الحاكم بهذا القرار أنّ المعايير المحاسبية التي تطبّق في دول العالم على المصارف التجارية، لا تطبّق على مصرف لبنان.

يتابع الخبير سرده للوقائع فيقول إنّه في كلّ مصارف العالم، تنويع التوظيفات ضروري لتجنّب الإفلاس وهو واحد من أهم معايير العمل المصرفي. هذا ما لم تلتزم به المصارف في لبنان، إذ إنّ 70 في المئة من أموال المودعين استخدمت كديون للدولة اللبنانية.

ومن المتعارف عليه أيضاً بأنّ الدول لا تفلس بعملتها، فالقانون خوّلها طبع النقد الخاص بها، واليوم الدولة اللبنانية ليست مفلسة بعملتها. بل بالعملة الصعبة وتحديداً الدولار الاميركي، وإذا قدّرنا ودائع بـ117 مليار دولار، في المقابل، يقول حاكم مصرف لبنان إنّ لديه 20 مليار دولار، ما يعني أنّ هنالك 97 مليار دولار تبخّرت، فكيف ستتمكن الدولة والمصارف ومصرف لبنان من دفعها؟

لا يوجد أيّ دليل على أنّ الدولة، بحسب الخبير، هي المسؤولة عن الإفلاس، بسبب 17 مليار دولار ديناً بالعملات الأجنبية. قيمة الودائع التي تبخّرت 97 مليار دولار، وإذا استدانت الدولة منها عبر بيع سندات يوروبوندز للمصارف ومصرف لبنان بقيمة 17 مليار دولار، يعني أنّ الـ80 مليار دولار أُنفقت بسبب تغطية الإنفاق الحكومي أوّلاً وبنسبة أقلّ بكثير بسبب الهندسات المالية.

أوّل مصدر للنزف هو الهندسات المالية، بتحويل الليرة اللبنانية إلى دولار، قدّرت سنوياً بـ8 مليارات  دولار. والثاني هو عجز ميزان المدفوعات، الذي سجّل عجزاً تراكمياً منذ العام 2011 إلى اليوم بقيمة 25 مليار دولار، وهذا ليس حساباً دفترياً. بل هي عبارة عن مدفوعات إلى الخارج، سواء عبر الاستيراد أو عبر تحويل الأموال.

هكذا تبخّرت أموالكم. ولا حلّ إلا بتأسيس مصارف جديدة، برأسمال حقيقي و”فريش ماني”، تتأقلم مع حجم الاقتصاد الوطني اللبناني، وتكون ميزانياتها شفّافة.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…