أزمة الدولار في المصارف تتفاقم ولجنة الرقابة تتدخّل

مدة القراءة 6 د


لم يعد يُخفى على أحد عوارض أزمة شح الدولار في النظام المالي ككلّ، والتي كان آخرها البلبة التي حدثت إثر امتناع مصارف عديدة عن السماح لعملائها بسحب الدولارات الطازجة المتأتية عن تحويلات من الخارج نقداً، ما اقتضى تدخّل لجنة الرقابة على المصارف لمعالجة المسألة.

أصل المشكلة يعود لتراجع الموجودات الخارجيّة في المصارف اللبنانيّة، المتمثّلة بشكل رئيسي بحسابات المصارف اللبنانيّة في المصارف الأجنبيّة المراسلة واستثماراتها في الخارج، التي تمثّل المصدر الأساسي للدولارات التي يتمّ شحنها للبلاد. الأرقام المتوفّرة لدى مصرف لبنان تدلّ على أنّ المصارف اللبنانيّة كانت تمتلك حتّى نهاية شهر حزيران الماضي حوالي 14.4 مليار دولار في هذه الحسابات، مقارنة بنحو 22.5 مليار دولار في الفترة المماثلة تماماً من العام الماضي. ما يعني أنّ المصارف اللبنانيّة خسرت خلال عام واحد ما يقارب 36% من موجوداتها الخارجيّة.

إقرأ أيضاً: رياض سلامة يغازل الأميركيين بـ”وقف الدعم”؟

وعلى أيّ حال، يمكن القول إنّ المصارف اللبنانيّة ليست حرّة بالتصرّف في الـ 14.4 مليار دولار المتبقية في موجوداتها الخارجيّة. فمقابل هذه القيمة، يترتّب على المصارف اللبنانيّة حوالي 7.7 مليار دولار من الالتزامات التي يقتضي سدادها للمصارف الأجنبيّة من حساباتها في الخارج، وهو ما يجعل الصافي بين الالتزامات للخارج والموجودات الخارجيّة حوالي 6.7 مليار دولار فقط، وهي قيمة متدنّية جدّاً قياساً بحجم عمليّات المصارف السنوي وتعاملاتها مع المصارف في الخارج.

من حيث المبدأ، لم يكن من المفترض أن تلجأ المصارف إلى هذا النوع من القيود المستجدّة، خصوصاً أنّ التحويلات الواردة سيتمّ استقبالها في المحصّلة في حسابات المصارف اللبنانيّة في الخارج

في كلّ الحالات، تشير مصادر مصرفيّة مطلعة لـ “أساس” إلى أنّ الأزمة باتت أبعد من ذلك ولا تقتصر على هذا الرقم فقط. فبالإضافة إلى كلّ ذلك، ثمّة جزء معتبر من “الالتزامات غير المصنّفة” في ميزانيّات المصارف اللبنانيّة المجمّعة، تتجاوز قيمتها حدود 23 مليار دولار، يمثّل التزامات مترتّبة على المصارف بالدولار الأميركي. وهو ما يفاقم من مستوى الضغوط الماليّة بالعملة الصعبة التي تطوّق المصارف اللبنانيّة اليوم. وبذلك، يمكن القول بحسب هذه المصادر بأنّ المصارف بلغت في واقع الأمر الحدّ الأقصى الذي يمكن أن تصل إليه من استنزاف في موجوداتها الخارجيّة، وهو ما انعكس بوضوح على عمليّاتها داخل لبنان.

لكلّ هذه الأسباب بدأت المصارف بتقنين شحن الدولارات النقديّة إلى لبنان، التي كان يجري سحبها من حسابات المصارف المراسلة في الخارج. ولذلك، بدأت بعض المصارف بتطبيق إجراءات جديدة تتعلّق بالسحوبات النقديّة من الدولارات المتأتية من تحويلات خارجيّة، أي الدولارات الطازجة، وذلك عبر الطلب من الطلب من العملاء سحب جزء من هذه الأموال بالليرة ووفقاً لسعر الصرف المحدّد في التعميم 151، أو من خلال طلب تجميد جزء من هذه الدولارات لفترات معيّنة من الزمن. كما قامت بعض المصارف برفع قيمة العمولات التي تفرضها عند تلقّي هذه التحويلات، أو عند سحبها نقداً، بهدف تقليص حجم هذا النوع من النوع من العمليّات، فيما قام البعض الآخر من المصارف بتعقيد الإجراءات البيروقراطيّة التي يجب أن يمرّ بها طلب العميل، قبل الموافقة على سحب هذه الدولارات.

من حيث المبدأ، لم يكن من المفترض أن تلجأ المصارف إلى هذا النوع من القيود المستجدّة، خصوصاً أنّ التحويلات الواردة سيتمّ استقبالها في المحصّلة في حسابات المصارف اللبنانيّة في الخارج، وهي الحسابات التي تستعملها المصارف لشحن الدولارات النقديّة إلى لبنان. لكنّ المشكلة بحسب الخبراء المتابعين للمسألة تكمن في عدم احتفاظ المصارف بمخزون كبير من الدولارات النقديّة في لبنان، بسبب أزمة الشحّ في السيولة التي تعاني منها وللأسباب التي ذكرناها، فيما تحتاج المصارف إلى بعض الوقت لشحن الدولار من حساباتها في الخارج إلى البلاد بعد تلقي التحويلات. ولهذا السبب تحديداً، بدأت بعض المصارف بالتضييق على عمليات سحب الدولار نقداً، ولو كانت هذه العمليات متعلّقة بالدولارات الطازجة.

طلبت لجنة الرقابة على المصارف من جميع المصارف التجاريّة الالتزام بتأمين حريّة التصرّف بجميع الأموال الآتية من خارج النظام المصرفي، أي من خلال التحويلات الخارجيّة والإيداعات النقديّة، وعدم فرض أيّ قيود يمكن أن تحدّ من هذه الحريّة

هذه المسألة اقتضت تدخّل لجنة الرقابة على المصارف، خصوصاً أنّ مسألة تحرير الدولارات الطازجة من أيّ قيود أو ضوابط كانت موضوع تعميم سابق صادر عن مصرف لبنان. مع العلم أنّ المصرف المركزي استثنى الدولارات الطازجة من التدابير التي يفرضها مصرف لبنان على المصارف، والتي تتعلّق بإيداع نسبة منها كاحتياطي إلزامي في المصرف المركزي، وذلك بهدف تمكين المصارف وتشجيعها على استقبال هذه التحويلات وترك حريّة التصرّف بها لعملائها. وعمليّاً، يمكن القول إنّ اهتمام مصرف لبنان بهذه المسألة، ينطلق أساساً من رهانه على الدولارات الطازجة تحديداً، في أيّ معالجة مقبلة للوضع النقدي والمالي.

في كلّ الحالات، طلبت لجنة الرقابة على المصارف من جميع المصارف التجاريّة الالتزام بتأمين حريّة التصرّف بجميع الأموال الآتية من خارج النظام المصرفي، أي من خلال التحويلات الخارجيّة والإيداعات النقديّة، وعدم فرض أيّ قيود يمكن أن تحدّ من هذه الحريّة. كما طلبت اللجنة من المصارف الالتزام بتسليم العملاء هذه الأموال نقداً، خلال مهلة لا تتجاوز السبعة أيام من تاريخ طلب العميل لهذه السحوبات. وأخيراً، طلبت اللجنة من جميع المصارف الالتزام بالإعلان عن العمولات المرتبطة بالأموال الجديدة بشكل واضح، وهو ما بدا كمحاولة للتعامل مع ظاهرة فرض رسوم وعمولات مفاجئة على التحويلات بعد ورودها.

تشير مصادر مصرفيّة مطلعة إلى أنّ قيام لجنة الرقابة بمتابعة للموضوع مؤشّر إلى مدى اهتمام السلطة النقديّة بهذه المسألة، خصوصاً أنّ خسارة ثقة العملاء بالإجراءات المتعلّقة بالأموال الطازجة ستعني عمليّاً خسارة آخر ما يمكن الرهان عليه لاستقطاب التحويلات من الخارج إلى النظام المالي. ولذلك، وبهدف تطبيق هذه الإجراءات، سيكون على المصارف العمل على تخصيص جزء من سيولتها لزيادة الدولارات النقديّة الموجودة بحوزتها في لبنان، للتمكّن من تلبية طلبات السحب النقدي من الأموال الطازجة. مع العلم أنّ التحويلات الواردة ستصبّ بدورها في حسابات المصارف المراسلة، وهو ما يعني أن المصارف ستسترد السيولة النقديّة التي يجري سحبها في لبنان في حساباتها في الخارج، وستتمكّن من شحنها كدولارات نقديّة إلى لبنان لاحقاً وتعويض ما جرى سحبه.

 

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…