“بيتك ملكك؟ للبيع..؟”، عبارةٌ تهتك أوجاع الناس قهرها، ونكبتها، وتحاول الاصطياد بدمار الأحياء المنكوبة، وتزرع روايات خوف جديدة تبدأ بكابوس الاستثمار، ولا تنتهي بشبح التهجير.
يؤكد داني راضي أنّ الأحاديث عن سماسرة عقاريين في المناطق المدمّرة من بيروت، دقيقة، وهو الذي زاره قبل أيام في منزله (غير القابل للسكن حالياً) والكائن في الكرنتينا، رجلان يلبسان “الجينز” وسترة كحلية وقبعة بلاستيكية “من دون أيّ شعار”، بطريقة توحي أنّهم من قبل إحدى الجمعيات. ادّعيا أنهما مهندسان من خارج لبنان، وطالبا بالكشف على الأضرار في المنزل. وكان كلما سألهما داني عن أسميهما أو اسم الجهة التي يتبعان لها، يتهرّبان من الإجابة. لحظات وكشف السؤال عن نياتهما: “هل هذا البيت ملك لك؟” أجاب داني: هذا البيت إيجار، فأصرّا على الحصول على رقم صاحب الملك. لكن داني أنكر أنّه يمتلك الرقم. وأكد لـ”أساس” أنّ الكثير من السماسرة العقاريين يحملون عبارة “بيتك ملكك؟ للبيع؟ “ويدورون فيها بين الأحياء المدمّرة اليوم. ويدفعون مبالغ كبيرة، مضاعفة أحياناً وأكثر من مضاعفة. فالشقة التي تساوي 200 ألف دولار مثلاً يمكن أن يدفعوا بها مبلغ 400 أو 450 ألف دولار”.
إقرأ أيضاً: أهالي بيروت ينامون في العراء
يرفض داني اتهام أحد، ولا ينكر انتشار الرواية الأكثر تداولاً، وهي أنّ هذه السمسرة لمصلحة شخصية سياسية فاعلة في البلد، لافتاً إلى أنّ الأجهزة الأمنية، وتحديداً مخابرات الجيش، أصبحت على علم بالموضوع. ويفترض أنها تتابع التفاصيل لمعرفة خلفيات ونيات هؤلاء السماسرة.
لا معلومات دقيقة حتى الساعة عن هذه القضية لدى نائب الأشرفية المستقيل نديم الجميل، بل فقط أحاديث ومشاهدات متناقلة بين الأهالي. وهو لا يستغرب ما يحصل ويصفه بالمعيب واللاإنساني: “فنحن في بلد سماسرة بأمه وأبيه”. ويرفض التعليق على الموضوع من بوابته الطائفية: “فالناس تدمّرت بيوتها وخسرت كلّ ما تملك. وليس التوقيت مناسباً لمحاولات كهذه من أيّ جهة ولأيّ غايات كانت… فليتركوا الناس تتخطّى صدمتها وتستوعب كلّ ما جرى، وتبحث عن وسيلة لتبدأ حياتها من جديد”.
يتهرّب كيال من تسمية الجهة النافذة التي ترسل سماسرتها، ويرفض وضع الموضوع في إطار طائفي: “فما يحصل هو استغلال للوجع. وللأسف هناك سياسيون يبرعون بالرقص على جثة الميت”
يطالب الجميل عبر “أساس” الأهالي بالتريّث والعضّ على الجراح: “نحن بحاجة لوقت لإحصاء الخسائر والكلفة. وهناك ظروف علينا أن نتحمّلها جميعاً، لنبقى هنا ولتبقى معنوياتنا مرتفعة. ولو أرادوا تهجيرنا، فلن نرحل”. وعن التنسيق مع الأجهزة الأمنية لكشف ملابسات ما يحصل في الأحياء المنكوبة، يعلّق الجميل: “إبعد عن الشر وغنّيلو…”. ويشير إلى أنّ “الأولوية هي لإبقاء الناس في بيوتها عبر توعيتهم وترميم منازلهم بأسرع وقت”.
وتوجّه لأهالي الأشرفية بالقول: “ليست أوّل مرّة تتدمّر الأشرفية. في مختلف الظروف كنّا نقف من جديد ولم نعتَد يوماً أن نتركها. والمطلوب اليوم نفس الجهد ونفس الأمل لنكمل المشوار ونقف من جديد”. وقال للسماسرة ومن يقف خلفهم: “مهما حاولتم تهجيرنا، إن كان لاستفادة مادية أو ديمغرافية، فهذه الأشرفية معروف تاريخها وجغرافيتها، وستبقى تماماً كما هي”.
أما مختار الرميل فادي ناكوزي فيرى أنّ هناك مبالغة بقضية السماسرة العقاريين، ويؤكد أنها حصلت بشكل محدود في أحياء الأشرفية، وتحديداً في الجمّيزة في “بيوت عليها العين كونها تراثية”، مؤكّداً أنّ الوسيلة الوحيدة اليوم لإبقاء الناس في بيوتها بأن يتمّ ترميمها وإصلاحها بأسرع وقت “فالخسائر كبيرة… وليكفّوا عن إرسال المساعدات الغذائية وليبحثوا عمن يحتاج منزله لترميم وليساعدوه قبل أن يدهمنا الشتاء”.
لا يوافقه زميله المختار منير كيال، الرأي، ويؤكّد لـ”أساس” أنّه ليس في القضية أيّ مبالغات. بل فعلياً، هناك ناس قد تستسلم بعد أن وجدت نفسها في منزل غير صالح للسكن، وبعد أن خسرت كلّ شيء. وهناك بالتأكيد من يحاول استغلال هذه المعاناة، وسماسرة يحومون تحديداً على الأحياء الأكثر فقراً يحاولون شراء بيوت سكانها في لحظة ضعف وتخلٍّ: “لذلك نحاول الوقوف إلى جانب الناس كي تبقى في منازلها، وهذه الأرض لن تباع، وسنعمّرها، وسنبقى بها، ونقول لأكبر زعيم ولأصغر زعيم: لن نبيع”.
يتهرّب كيال من تسمية الجهة النافذة التي ترسل سماسرتها، ويرفض وضع الموضوع في إطار طائفي: “فما يحصل هو استغلال للوجع. وللأسف هناك سياسيون يبرعون بالرقص على جثة الميت”.
ولهؤلاء السماسرة طرق ملتوية عديدة يدخلون عبرها إلى البيوت، يوضحها وسام دياب أحد سكان المدوّر: “فاليوم تحديداً (الخميس الفائت) حصلت بلبلة كبيرة في الحيّ، وذلك بعد زيارة شخصين لأحد لأبنية مدّعين أنّهما من فريق البلدية، وأبلغا صاحبها بأنّها مهدّدة بالسقوط، من دون أن يكون معهما أجهزة ومعدّات للتأكد من نسبة تصدّع الأسطح والجدران، الأمر الذي خلق جواً من الرعب في قلوب الناس المرعوبة أصلاً. وهذا هدفه دفع السكّان إلى التفكير بترك العقارات المهدّدة بالانهيار، ويصبحون بعدها بلا مأوى، أفضل من انهيار العقار فوق رؤسهم، فيصيرون بلا مأوى وبلا مال وبلا حياة ربّما. ولا يستبعد وسام فرضية أن يكون هناك تنسيق بين المستثمرين وبين بعض أصحاب العقارات المؤجّرة “أيجاراً قديماً”. فقد يرى المالك في ما جرى فرصة لاستعادة ملكه وتعويض خساراته.
يطالب وسام بحضور أمني ومتابعة جديّة لهذه التحركات المشبوهة: “لم تتدخل أي جهة حتّى الآن، لحماية السكان. فقط نرى شاحنات مساعدات غذائية واستعراضات تصويرية، بينما فقدت الناس بيوتها ورزقها، وحتى آمالها”.
تكاد تجمع روايات الأهالي على شخص وحيد يمتلك شركة معروفة بنشاطها المرتكز على شراء وبيع الأراضي، والبناء ومواد البناء، وهو”مغطّى” من شخصية سياسية نافذة في لبنان
مصادر بلدية بيروت تؤكد لـ”أساس” أنّ قرار محافظ بيروت الأخير المرتبط بمنع البيع والشراء، وما تبعه من تعميم مماثل لوزير المالية يتعلّق بمنع بيع العقارات ذات الطابع التراثي والتاريخي، ليس بعيداً عن هذا الجو، وأنّ موضوع السماسرة العقاريين غير محصور فقط بالبيوت التراثية بل بالعادية أيضاً، لكن القديمة أكثر استهدافاً كونها أكثر تضرّراً. وتؤكد المصادر أنّ إجراء مسح للعقارات المتضرّرة تمهيداً لوقف التكليف بالرسوم البلدية عن هذه العقارات “ما هو إلا تشجيع للناس ليبقوا في بيوتهم”.
لكن من هؤلاء السماسرة ولأيّ جهة نافذة ينتمون؟
كلّ الذين تحدّثنا معهم يردّدون أقاويل متداولة بين المنكوبين في المنطقة، ويخشون التصريح عن هوية طالبي الشراء وخلفيتهم. لكن تكاد تجمع روايات الأهالي على شخص وحيد يمتلك شركة معروفة بنشاطها المرتكز على شراء وبيع الأراضي، والبناء ومواد البناء، وهو”مغطّى” من شخصية سياسية نافذة في لبنان. وسبق أن اشترى عقارات في بيروت بمبالغ ضخمة وبنى أبراجاً، وشققاً فخمة، يصل سعر المتر الواحد فيها إلى 10 آلاف دولار.
فمن هي الجهة التي تستثمر في دماء الناس؟ وفي أرزاقها؟ ومن الذي يريد هدم ما تبقى من هذه المنازل، وتهجير من تبقى من أهلها؟