بيروت في القصائد والأغاني: “زهرة في غير أوانها”..

مدة القراءة 7 د


لم تحظ عاصمة عربية بما حظيت به بيروت من أغنيات وقصائد من فنّانين وشعراء لبنانيين وغير لبنانيين. هذه المدينة ألهمت مئات الفنانين والشعراء والملحّنين لكي تكون مادة في قصائدهم وأغنياتهم. ويتفاوت طبعاً المستوى الفني لهذه الأغاني والقصائد بحسب كتّابها وملحّنيها ومؤدّيها، ويبقى الزمن هو الغربال القادر على تمرير ما يستحقّ أن يبقى في الزمن من هذه الأغنيات، التي لا يتوقف إنتاجها وأعادة إنتاجها، مع كلّ حدث يصيب بيروت. ولا تدّعي هذه السطور توثيق الأغنيات التي تناولت بيروت أو ذكرها كلها، بل تختار مجموعة من الأغنيات التي حفرت في الوجدان العام، وحفظها الناس عن بيروت، وتحاول قراءتها على ضوء الحدث.

إقرأ أيضاً: مديح الذلّ… “الواطي”!

تختلف زاوية تناول هذه المدينة الصغيرة بين فنّان وآخر بحسب ظروف كتابة القصيدة نفسها، مع ملاحظة أنّ معظم القصائد التي اقترنت ببيروت مجرّدة أو ملحّنة كُتبت ولُحّنت في ظروف حزينة وقاسية كانت تمرّ بها المدينة، منذ زلزالها الكبير قبل ما يقارب القرن ونصف القرن، وحتّى الزلازل التي كانت تضربها، من الخارج والداخل، وغالباً بسبب السياسة والحروب، ولم يكن آخرها زلزال اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وبعد اغتيال الحريري، خرجت أكثر من أغنية تبكي بيروت، بعضها لا يزال يتردّد إلى اليوم في التظاهرات: “بيروت عم تبكي/ مكسور خاطرها/ الحجار عم تحكي/ وينه اللي عمرها” (عاصي الحلاني)، مثلاً، أو: “لبنان رح يرجع والحقّ ما بيموت/ والشمس رح تطلع/ تضوّي سما بيروت” (جوزف عطية).

بيروت في قصائد الشعراء مرفأ وبحر وسفن مبحرة وراسية، والأهم حياة تعاند الموت طوال الوقت

قليلة هي الأغاني، أو حتى القصائد، التي تظهر فيها بيروت بعيدة عن الدموع والحزن والنار والدمار. واقتران الحدثية بالأغنيات “البيروتية” ينبّهنا إلى هول ما تعرّضت له بيروت عبر العصور، خصوصاً في تواريخ أساسية هزّت المدينة وكانت مفصلية في تحديد مستقبلها وتغيير صورتها. وقد وثّق الشاعر شوقي بزيع لحضور “بيروت في قصائد الشعراء” عبر العصور في كتابه الذي يحمل هذا العنوان والصادر عن دار “الفارابي”. ويتضمّن هذا الكتاب عشرات النصوص وعشرات القصائد لشعراء أحبّوا بيروت وتغنّوا بجمالها على مرّ الحقب والعصور. يقول عنها شوقي بزيع: “مدينة قيد الإنجاز وعاصمة لا تكفّ عن إعادة تأسيس نفسها كلما أنهكها فاتح أو عصف بها زلزال”. وهي بهذا المعنى كانت تستفزّ الشعراء بدمارها وجروحها لكي يكتبوا عنها، منذ الشاعر اليوناني أغاتيوس الذي رثا بيروت بعدما دمّرها زلزال العام 566 بالقول: “أنا وردة فينيقيا التي ذوت بفعل الزلزال/ وزال عنها جمالها الرائع/ ودكّت أبنيتها البديعة المنظر/ الرائعة الهندسة/ ها أنذا المدينة التاعسة/ كومة من الخرائب وأبنائي أموات/ هل تبكون أيها العابرون الماشون فوق أطلالي؟/ هل تأسون لمجد بيروت التي لا وجود لها؟/ وداعاً أيها الملاحون الباحثون عن مرفأ لهم/ وداعاً أيتها القوافل الآتية من وراء البحار”.

في هذه القصيدة المنشورة في كتاب بزيع، والتي استعادها بعد وقوع التفجير في المرفأ على حسابه على فايسبوك، شيء من إعادة التاريخ لنفسه، لكن بصورة أكثر قسوة. فالطبيعة هي التي دمّرت بيروت بزلزال العام 566، لكن بعد ما يزيد على 1454 عاماً استعيد التاريخ بفعل بشري، ولبناني محلّي، فزلزل المدينة بأطنان من الفساد المخزّن في مرفئها.

وبيروت في قصائد الشعراء مرفأ وبحر وسفن مبحرة وراسية، والأهم حياة تعاند الموت طوال الوقت: “يا مينا الحبايب يا بيروت/ يا شط اللي دايب يا بيروت/ يا نجمة بحرية عم تتمرجح عالميّي/ يا زهرة الياقوت”. وهذه كلمات أغنية لفيروز من كلمات وألحان الأخوين الرحباني، وفيروز “حملت بيروت في صوتها ونغمها”. قد تكون هذه الأغنية الفيروزية الوحيدة التي تتناول بيروت بنبرة يغلب فيها الفرح الحزن والدموع  الحاضرين في باقي أغاني فيروز عن بيروت: “بيروت هل ذرفت عيونك دمعة/ إلا ترشّفها فؤادي المغرم”، أو “أزهرت جراح شعبي أزهرت/ دمعة الأمهات/ أنت بيروت لي/ آه عانقيني”. أو ثالثة تحكي فيها العودة إلى بيروت بعد دمارها: “رجعت على بيتي/ ما لقيته لبيتي/ دخان وزوايا/ لا وردة ولا سور”، وهذه فيها تطابق مع الكارثة الأخيرة التي أصابت بيروت، وغالباً كثيرون ممن فقدوا بيوتهم عاشوا وقع هذه الكلمات، لكن أغاني فيروز تحمل دائماً أملاً ببيروت أفضل وأيام أحلى فتنهيها بـ: “يا هوى بيروت/ يا هوى الأيام/ ارجعي يا بيروت/ بترجع الإيام”.

أحمد قعبور، البيروتي، فقد التقط من بين ركام الحرب والزلازل يوميات بيروتية تعبّر بفرح عن بيروت

على عكس حضورها الكئيب في أغنيات فيروز، تحضر بيروت في أغنيات “الشحرورة” صباح بكثير من الفرح والبهجة، فيأخذها قلبها “سكارسا من الشام لبيروت”، وتتكفل بنفسها بأخذنا في جولة على أحيائها وشوارعها ومعالمها، في ستينات القرن الماضي في أغنيتها الشهيرة “ألو بيروت”، وتضيّع قلبها في بيروت بعدما حضرت إليها لتبيع “كبوش التوت”، في أغنيتها “عالضيعة ياما عالضيعة” التي لحّنها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. وهو استوحى أيضاً من كلمات وألحان قصيدة “عندك بحرية” لعمر زعنّي لحناً غنّاه وديع الصافي، وطبعاً مقصود بالبحرية بحّارة بيروت ومينائها.

بيروت تحضر أيضاً في قالب مسيّس في كثير من القصائد والأغاني، فيعطينا مارسيل خليفة درساً في التاريخ في أغنية “توت توت عبيروت”. والعاصمة “مخزن همّ” في أغنية أخرى تغنّيها أميمة الخليل، و”هيصة ووحشة جمرية”، وهي “نجمتنا وخيمتنا”، و”بيروت تفاحة والقلب لا يضحك” والكلام لمحمود درويش. والأخير مرتبط بالصوت الفلسطيني الذي وجد في بيروت حضناً من التشرّد والشتات، وخيمة تحمي من زخّات الغارات التي تمطر الهاربين من الموت. من هنا، تحضر بيروت أيضاً في كلام محمود درويش في أغنية ماجدة الرومي “سقط القناع”، حينما تغنّي لبيروت المحاصرة من العدو الإسرائيلي في العام 1982: “بيروت لا! حاصر حصارك لا مفرّ/ إضرب عدوّك لا مفرّ”. والرومي غنّت من كلمات نزار قباني الذي أحبّ بيروت وحزن على دمارها: “يا بيروت يا ست الدنيا/ نعترف أمام الله الواحد نعترف/ أنّا كنا منك نغار/ وكان جمالك يؤذينا”. وفي هذه الأغنية يدعوها لتقوم “من تحت الردم”. ومع خالد الهبر، تحضر مع حسرة في تذكّر بيروت الستينات: “هني سنين شو حلوين أيام الستين/ كنا نتظاهر آلسطا أولاد البرج ولاد البسطة/ كانت جامعتنا المدينة وكنّا فيها مجتمعين”. ثم أتت الحرب في منتصف السبعينات لتشتّت الناس وتقسّم اللبنانيين، وضياع الناس وفراغها منهم بسبب الحرب: “مثل الصوت اللي طالع لوحده بهالصدى/ وقفت بيروت تنادي… ما في حدا”. لكن بيروت تعود لترتبط لدى الهبر بشكل أساسي بناسها الذين صمدوا فيها خلال الاجتياح: “بيروت شوية ناس/ وزواريب وشوارع/ وعيون عشبابيك/ وحلم من جرحها والع”. وهي طبعاً “حرية سهرانة على حيطان البيوت”.

أما أحمد قعبور، البيروتي، فقد التقط من بين ركام الحرب والزلازل يوميات بيروتية تعبّر بفرح عن بيروت: “مرحى مرحى، جيبوا الطرحة لبيروت”. عمل قعبور على تخصيب الفرح في “صندوق فرجة كبير”، وفجّر الفرحة لـ”تملّي الدنيي من بيروت”، فهو “عاشق” لبيروت ويقول لها: “بيلبقلك”. وطبعاً لا حاجة إلى الحديث عن أسلوب قعبور في التلحين “البلدي” القريب إلى القلب، في الفرح كما في الحزن: “يا رايح صوب المنارة، فتشلي عن حرش العيد/ وبالعادي طير طيارة وقلّي وين صار القرميد/ ونادي كان في عنّا ساحة نلعب فيها من زمان/ ونادي كانت حول بيوتن حلوة أشجار الرمّان/ قطّعوها وبقيت وِحدة/ اسقوها شويّة حرام”. وعاند أحمد قعبور تشاؤم شاعر بيروت الكبير عمر زعنّي، فغنّى مستوحياً من كلمات إحدى قصائده (يا ضيعانك يا بيروت)، وبتصرّف: “مش رح قول يا ضيعانك يا بيروت/ لو فيي زهّر رمانك يا بيروت/ مع كلّ اللي عاشوا حروبك/ واللي غنّوا بعتم دروبك/ واللي لعبوا بيت بيوت”. في هذه الأغنية تحية تشمل جميع من غنّى وكتب بيروت، وهي تحمل عنوان قصيدة للزعنّي “بيروت زهرة (في غير أوانها)”. وقد يكون أجمل تلخيص لبيروت هو من أغنية كتبها وغناها قعبور: “لنّا صغيرة ولنّا كبيرة، لكن على قدّي وعلى قدّك/ إن كبرت بتساع الدنيي، وإن صغرت بوسة على خدّك”.

 

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…