مساجد الأشرفية.. دمّرها التفجير وأهملها الترميم

مدة القراءة 6 د


للمدينة التي “ماتت ألف مرة وعاشت ألف مرة من جديد”، بصمات جغرافية تؤكّد أنّها منذ الأزل، وستبقى، فسيفساء اجتماعية ودينية. هذه التعدّدية ضمن النسيج الواحد صنعت سبب وجود بيروت. وكيفما انحرف استخدام تعدّديتها سلباً وإيجاباً، ومهما بلغت الأثمان، إلا أنّ بيروت محكومة بإعادة نهوضها.

إقرأ أيضاً: أهالي بيروت ينامون في العراء

عوالم التعدّدية هذه حيّة وعابرة للأزمنة. ثابتها غير المتبدّل، نجده في آثار ومعالم الأحياء التراثية التي لم تمحها زلازل دفنت المدينة سبع مرات تحت الأرض. وتتبلور على سبيل المثال لا الحصر، في منطقة الأشرفية التي تحتضن مكوّنًا إسلاميًا غير طارىء ولا “مفروضًا”. ففي هذه المنطقة ذات الطابع المسيحي، وتعجّ بالكاتدرائيات والكنائس، مسجد منحته اسمها، ولقّب بـ”جامع الأشرفية”. وهو اسم ثانٍ اتخذه “جامع بيضون” الذي لحقت به أضرار جسيمة، يعمل المسجد على ترميمها “من اللحم الحيّ”.

 

مسجد بيضون

يخبرنا خطيب المسجد وإمامه، الشيخ الدكتور ابراهيم الحوت، أنّ “الأضرار تشمل بمجملها الزجاج، والحديد الذي يشكّل إطارًا للشبابيك، ومنها ما يرتفع سبعة أمتار ونصف المتر”.

يحتشد المسجد بزخرفات إسلامية شوّهها الانفجار، هي نفسها موجودة في الجامع العمري الكبير ودار الفتوى، “ويحتاج ترميمها لحرفية عالية ودقة لتحافظ على قيمتها الجمالية”. وبعد أكثر من أسبوعين على الانفجار، لم يُحظً المسجد باهتمام أيّ هيئة أو مرجع رسمي حكومي أو إسلامي للتكفّل بأعمال الترميم.

داخل المسجد العريق الذي بني في العهد العثماني عام 1664 على أوتوستراد نهر بيروت، مقام للشيخ محمد الخضر الذي يقال إنّه بناه ودفن فيه

رئيس جمعية “تراث بيروت” سهيل منيمنة يشير في صفحة “مساجد بيروت” إلى القيمة التراثية للمسجد، الذي أنشىء على طراز أندلسي جميل: “بعد أن هُدم الجامع القديم الذي بني سنة 1879 على العقار رقم 825 أشرفية. وكانت الأرض هبة من آل بدر وآل كشلي، وشاركت جمعية المقاصد في بنائه”. ويذكر أنّه “في سنة 1951، أنشىء المسجد الجديد والمدرسة بتوجيه من الرئيس رياض الصلح ومفتي الجمهورية آنذاك الشيخ محمد توفيق خالد، والمرحوم درويش بيضون وبعض أهل الخير الطيبين”.

 

مسجد الخضر

في الكرنتينا المحاذية لمرفأ بيروت، يقدّم مسجد “الخضر” رواية أخرى عن تاريخ إسلامي وثقافي يحمل مع المدينة المكلومة وجعها، ويصمد برغم تقصير بل إهمال القيّمين على شؤون البلاد والمسلمين.

داخل المسجد العريق الذي بني في العهد العثماني عام 1664 على أوتوستراد نهر بيروت، مقام للشيخ محمد الخضر الذي يقال إنّه بناه ودفن فيه. وتشير بعض الروايات إلى أنّ مسجد “الخضر” كان في الأصل كنيسة للموارنة، سمّيت باسم القديس مار جرجس الذي أنقذ ابنة ملك بيروت من التنين عندما حاول افتراسها عند مصبّ نهر بيروت، بحسب الأسطورة. وشهد المسجد أعمالًا للترميم والتوسعة على عدة مراحل، وأنشئت بجواره مدرسة الخضر.

وصار المسجد مبنىً أثريًا عام 1962، بموجب قرار وزير التربية.  لكن لم يشفع لجامع الخضر وزنه الأثري ولا الديني لتهتمّ أيّ جهة “رسمية سواء أكانت حكومية أو دينية لتفقّد أحواله”، على ما يؤكد لـ”أساس” إمام المسجد وخطيبه الشيخ علي بيطار، مشيرًا إلى أنّ “شيخًا يدعى إمام قاسم رشيد أحمد من بريطانيا، عاين أضرار المسجد بواسطة جمعية “جيل”، واندفع لتبنّي الترميم”. ويحصي بيطار مجمل الأضرار في “المقام الذي طاله الانفجار بشكل كبير في الزجاج والألومنيوم. وتدمّرت القاعة الزجاجية المسقوفة بالأترنيت والبلاستيك، بالإضافة لوسائل التبريد من مراوح ومكيّفات”.

 

مسجد خالد بن الوليد

يصحّ اعتبار مسجد “خالد بن الوليد” الواقع أمام مستشفى الكرنتينا، الأكثر تضرّرًا بالتفجير. مشاهد مؤلمة لهذا الجامع حديث النشأة، الذي أعيد افتتاحه عام 2014، وشهد توسعة  خلال ست سنوات من غرفة إلى ثلاثة، لم يبقَ من معالمها سوى الهنغار، فيما خرجت أحشاء الحيطان والسقوف البيضاء، في الباحتين المخصّصتين للصلاة. وتصدّع الحجر، وعُكفت قضبان الحديد، ودُمّر الزجاج بشكل كامل، وأُخلي المسجد من مصلّيه اتقاءً لانهيارات وشيكة، فيما تظهر تفسّخات كثيرة في مئذنته البيضاء المصنوعة من الألومنيوم. في مشهد مأسوي لا يلملم اليوم أشتاته سوى أهل الخير من مصلّين ومتبرّعين، ربما تضرّرت بيوتهم وجُرحوا، ولكن يشعرون أنّ هذا الركن أيضًا بيت لهم، فيُسهمون بترميمه بما تيسّر من وقت ومال.

هذه المساجد الثلاثة غيض من فيض من دور عبادة إسلامية تضرّرت بفعل الانفجار. واقع تجدر رؤيته بالكامل، وليست محاولة لاستنساب الفاجعة، لأنّ “الدمار لا دين له”

البروفسورة في الجامعة الأميركية في بيروت هبة خضر، كانت ممن لم يقفوا مكتوفي الأيدي على أطلال المسجد. إذ فيما كانت تتعاون مع مجموعة متطوّعة من مركز “مكان” المجتمعي، على إزالة الركام من منطقة الكرنتينا، “تفاجأنا عند انحرافنا يسارًا من الأوتوستراد، حين تعرّفنا على هذا المسجد، ووجدناه بحال مؤلمة، جعلتنا نتحرّك بسرعة. شعرت باندفاعة خاصّة تجاهه. ربما لأنّ مقوماته المادية متواضعة. وكلّ محاولة لترميمه، يبادر بها مجتمع الجامع بجهود صادقة”.

عملت المجموعة على المساهمة في إزالة الركام، وتنظيف أثواب الصلاة، وكيّها. ومُدّ البساط في الباحة الخارجية، فأُقيمت صلاة الجمعة على الرغم من كلّ شيء بعد يومين من التفجير. ولا يزال الصوت مرفوعاً لحشد الدعم والتبرّع  لترميمه.

هذه المساجد الثلاثة غيض من فيض من دور عبادة إسلامية تضرّرت بفعل الانفجار. واقع تجدر رؤيته بالكامل، وليست محاولة لاستنساب الفاجعة، لأنّ “الدمار لا دين له”. لكن بقدر ما تعكس هذه المبادرات الأهلية من خير كامن لدى مواطنين مسؤولين ومؤمنين، يوقّرون دور العبادة، بقدر ما هي تكشف قصور دار دور المؤسسة الدينية. لم نرَ لهذه المؤسسات يدًّا تمدّها لترميم دور عبادة المسلمين، وهذا أضعف الايمان في مسؤوليتها لإنقاذ المساجد، وتضميد آلام أبنائها.   

جاء في الأنباء الأسبوع الماضي أنّ دولة الإمارات العربية تبرعت بمبلغ 2 مليون دولار لصندوق الزكاة التابع لدار الفتوى لترميم ما تضرّر من مسكان في مناطق معيّنة من شرق بيروت. ولم يعرف بعد ما إذا كانت المساجد الثلاث المذكورة أنفاً على لائحة الترميم التي يعدّها صندوق الزكاة أم لا..

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…