من كان يظنّ أنّ تفجير مرفأ بيروت سيؤدّي إلى انخفاض سعر صرف الدولار؟ أو يتبدّل الشحّ في منسوب العملة الصعبة وفراً في جيوب اللبنانيين؟ قبل أيام قليلة كتبنا عن فوضى طبع العملة اللبنانية وبوادر تضخّم مفرط مترافق مع حتمية ارتفاع سعر الدولار إلى أرقام مخيفة. أما اليوم، وبفعل التفجير ونتيجة ظروف أخرى، تبدّلت الصورة 180 درجة. بات الحديث لدى الصرّافين وفي المصارف المحلية، متركّزاً على حتمية هبوط سعر صرف الدولار، الذي سجّل استقراراً ملحوظاً في الأيام القليلة الماضية، قارَبَ الجمود عند سعر 7600 ليرة للمبيع و7300 ليرة لبنانية للشراء، ليعود وينخفض مجدداً الخميس إلى نحو 7000 ليرة للمبيع و6500 للشراء، وسط توقّعات قوية بأن يسجّل المزيد من التراجع في الأيام المقبلة.
إقرأ أيضاً: التعويضات متأخرة… وعلى المتضرر اللجوء إلى قروض الدولار
أوّل الأسباب التي أدّت إلى ذلك، كان التعميم الوسيط رقم 566 الصادر من مصرف لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت بيومين. هذا التعميم أعاد العملة الخضراء إلى يد اللبنانيين بعد انقطاع أشهر، وتسبّب بزحمة غير مسبوقة على أبواب شركات تحويل الأموال. فالتعميم ألزم المؤسسات غير المصرفية التي تقوم بعمليات تحاويل نقدية بالوسائل الإلكترونية الواردة من الخارج، بتسديدها بالدولار الأميركي “كاش”.
واحدة من هذه الشركات، أكّدت في بيان صادر عنها أنّها قد دفعت خلال الأيام الأربعة الماضية “عشرات ملايين الدولارات نقداً”، لكنها فضّلت أن لا تحدّد في اتصال مع “أساس” الرقم بشكل دقيق، كاشفة أنّ تهافت المغتربين على إرسال الأموال إلى ذويهم في لبنان، تسبّب بنفاد الدولارات لدى وكلائها، متعهّدة في الوقت نفسه، باستئناف الدفع بالدولار الأميركي اعتباراً من يوم السبت المقبل في مراكز وكلائها كافة.
كشف مكتب ماكرون في ختام المؤتمر، بأنّ باريس حصلت على تعهّدات بتقديم مساعدات من الدول والهيئات المشاركة، قيمتها نحو 253 مليون يورو
معلومات “أساس” تشير إلى أنّ التحاويل الخارجية تقهقرت في الآونة الأخيرة بنسبة 85%، وانحدرت من نحو 5 ملايين دولار يومياً إلى حدود 700 ألف دولار فقط، وذلك بسبب قرار مصرف لبنان السابق الذي قضى بدفع التحاويل بالليرة اللبنانية على سعر صرف 3850 ليرة. القرار دفع بالمغتربين صوب البحث عن أساليب مختلفة، وهذا ما دفع المصرف المركزي نحو التراجع عنه مجدّداً حرصاً على استمرار تدفّق العملة الصعبة إلى الداخل.
أما السبب الثاني، فهو المساعدات الدولية التي جُمعت خلال “مؤتمر الدعم الدولي لبيروت وللشعب اللبناني” الذي نظمّه الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون الأحد الماضي. إذ كشف مكتب ماكرون في ختام المؤتمر، بأنّ باريس حصلت على تعهّدات بتقديم مساعدات من الدول والهيئات المشاركة، قيمتها نحو 253 مليون يورو. هذه المساعدات ستتولّى عملية توزيعها مجموعة من المنظّمات الدولية وغير الحكومية والجمعيات تباعاً، وعلى رأسها الأمم المتحدة من دون المرور في أروقة السلطات اللبنانية، لأسباب تتعلّق بالفساد وبعدم ثقة المجتمع الدولي بالدولة اللبنانية. هي بالتأكيد لن تنقل هذه الأموال نقداً بالأكياس والصناديق إلى الأراضي اللبنانية عبر مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، وإنما ستُحوّلها إلى الداخل اللبناني من خلال المصارف المحلية التي ستكون الطرف الوسيط بين المتضرّرين من جهة وبين هذه المنظّمات.
بحسب خبراء مصرفيين، فإنّ هذه الحوالات المقبلة من الخارج ستتحوّل إلى سيولة قيّمة لدى المصارف المحلية، وستشكّل مناسبة جديّة لها من أجل استعادة ثقة المودعين بها في حال أحسنت استغلالها، وذلك بعد أن فُقدت ثقة المواطنين بها بفعل الأزمة. لعلّ المصارف ستتمكّن من استقطاب المودعين مجدّداً في التعاملات المالية والنقدية، وربما ستكون قادرة على إقناع اللبنانيين بالتخلّي عن “السوق السوداء”، وبإعادة أموالهم المخزّنة في البيوت إليها.
أما السبب الثالث لانخفاض سعر صرف الدولار، فلا يحيد عن المساعدات الدولية أيضاً، لكنّه يتعلّق بالمساعدات العينية نفسها، أكانت طبية أو غذائية. فكلّ هذه السلع تسدّ حاجات الناس في أكثر من قطاع. حاجة لدى مستشفى أو مستوصف أو لدى مواطن…إلخ. توافر هذه السلع مجاناً بين أيدي الذين سيتلقّونها، سيخفّض الحاجة إلى دولارات لاستيراد مثيلاتها من مواد غذائية وأدوية، وبالتالي ستؤثر سلباً على حجم طلب التجّار على العملة الصعبة، أقله في السوق البيروتي وضواحيه، الذي يشكّل نصف السوق اللبناني تقريباً.
أحد تجّار المواد الغذائية يملك سوبرماركت في محيط المناطق المتضرّرة من تفجير المرفأ، أكّد لـ”أساس” أنّه سيمتنع هذه الفترة عن شراء بعض المواد الغذائية الرئيسية، وخصوصاً الحبوب والحنطة والزيت والمعلبات، من سوق الجملة. لأنّ الطلب عليها سيخفّ كثيراً في الأيام المقبلة، بعد أن لاحظ تراجع الناس عن طلبها. هذا مثال واحد عن مئات المحالّ التجارية التي ستحذو الحذو نفسه، وبدورها ستؤثر في عملية العرض والطلب لدى تجار الجملة وفق المنطق ذاته.
الملفت في هذا كله، أنّ تراجع الطلب وانخفاض سعر الصرف تزامنا مع استقالة حكومة حسان دياب، وكأنّ استقالتها كانت سبباً رابعاً يُضاف إلى الأسباب الثلاثة التي ذكرناها، فبدت وكأنها جزء من مشكلة الدولار، وليس جزءاً من الحلّ
هذه المعطيات بدأت تُترجم على أرض الواقع. أحد صرّافي الفئة “ب” في بيروت، قال لـ”أساس” إنّ الطلب على الدولار “تراجع بشكل ملحوظ”، وإنّ المواطنين الذين يقصدونه اليوم “يعرضون بيع دولاراتهم فقط”، أكانت الدولارات مقبلة من الخارج أو تلك المخزّنة في الخزائن.
عضو نقابة الصرافين محمود حلاوي يقول لـ”أساس” إن “العامل النفسي لدى الناس أساسيّ جداً في هذا الخصوص، فالوعود بتشكيل حكومة وحدة وطنية وما قد يترافق مع ذلك من إعادة تفعيل لمساعدات الدول المانحة ومؤتمر سيدر، يترك ارتياحاً لدى الناس”. يضيف حلاوي أنّ المصرف المركزي “حدّ من تسليم الليرة اللبنانية قليلاً، وهذا بدوره يخلق طلباً مصطنعاً على الليرة، من دون أن ننسى المساعدات وحوالات المغتربين التي تصل إلى لبنان”. كلّ هذه العوامل ساعدت في خفض سعر صرف الدولار.
الملفت في هذا كله، أنّ تراجع الطلب وانخفاض سعر الصرف تزامنا مع استقالة حكومة حسان دياب، وكأنّ استقالتها كانت سبباً رابعاً يُضاف إلى الأسباب الثلاثة التي ذكرناها، فبدت وكأنها جزء من مشكلة الدولار، وليس جزءاً من الحلّ.
لكن لا مفرّ من الاعتراف بأن هذه المعطيات لا تعني انتهاء الأزمة إلى غير رجعة على الإطلاق، لكنّها تؤجّلها على الأقلّ إلى حين هضم السوق اللبنانية (البيروتية خصوصاً) لدفق المساعدات، الذي ربّما يمتدّ أشهراً حتى نهاية السنة. لكن إلى حينه، تهيّأوا إلى مزيد من انخفاض سعر صرف الدولار.
إنه لبنان، بلد العجائب!