حين كان حزب الله يمنّن المسيحيين بالقضاء على تنظيم “داعش”، التي “لولا حزب الله لوصلت إلى جونية”، كان تفجير بيروت المسيحية يأتي من العنبر رقم 12. انفجر ذلك العنبر، بالأمونيوم أو بالصواريخ، في وجه المسيحيين أوّلاً.
لطالما قامت الفكرة العونية على أنّ سلاح حزب الله هو بديل المسيحيين في لبنان عمّا خسروه في اتفاق الطائف من صلاحيات. جاء ميشال عون باتفاق مع نظام الأسد وحزب الله، سرعان ما تحوّل إلى “تفاهم” علنيّ مكتوب. وتوجّه إلى المسيحيين بالنظرية “المشرقية”، باعتبار أنّ المسيحيين يحميهم “تحالف الأقليات”، مع الشيعة والعلويين. وذهب ميشال عون إلى سوريا ليزور بشّار الأسد، “على خطى القدّيس بولس”، كما وزّع إعلامه قبل الزيارة في العام 2008.
إقرأ أيضاً: بكركي الخائفة يحرّكها خطر وجوديّ وليس رأياً سياسياً
تغذّت هذه النظرية من قوّة حزب الله التي كانت تتعاظم، ومن متانة النظام السوري. لكنّها راحت تهتزّ حين بدأ مسلسل الأحداث الجديد في رحلة تقهقر هذا النظام، خلال السنوات الأخيرة.
10 سنوات من الحرب في سوريا، ولا يزال بشّار الأسد في قصره، حاكماً دمشق وبقية أجزاء سوريا الواقعة تحت سيطرة القوات الروسية والإيرانية. ورغم أنّه أقرب إلى “محافظ دمشق”، إلا أنّه بقي “رئيس سوريا”. و4 سنوات من العقوبات القاسية على النظام الإيراني، منذ مجيء دونالد ترامب وفسخه “اتفاق أوباما النووي” ولا يزال حزب الله واقفاً على قدميه في سوريا ولبنان.
أما في لبنان، فالاقتصاد الواقع تحت حصار غير معلن، هو اقتصاد مسيحيّ في عمقه، في المصارف والجامعات والمدارس والمؤسسات الكبيرة. ليكتمل بذلك تقهقر المحور كلّه، الذي بُنيت على ضفافه نظرية “احتماء” المسيحيين بالأقليتين الشيعية والعلوية. فالعلويون باتوا في أضعف لحظاتهم منذ 50 عاماً، ومهدّدون بخسارة الحكم في سوريا. والشيعية السياسية في لبنان باتت في أضعف لحظاتها، منذ اتفاق الطائف قبل 30 عاماً. والإيرانيون كذلك في أضعف لحظاتهم منذ انتصار الثورة الخمينية قبل 40 عاماً.
هذا التفجير، سواء كان فعلاً بتدبير أو قصفاً إسرائيلي، أم لم يكن، أحدث انفجاراً كبيراً في الوعي المسيحي
هكذا، بعد الزلزالين السوري والإيراني، جاء تفجير بيروت، القنبلة شبه النووية، التي دمّرت بيروت المسيحية بشكل كبير، من الجمّيزة والصيفي، مروراً بالأشرفية، ووصولاً إلى أطراف كسروان وبعبدا والمتن. مئات الآلاف تضرّروا، في متاجرهم ومؤسساتهم وسياراتهم. مئات الآلاف من المسيحيين وغير المسيحيين، لكن في عمق القلب الاقتصادي المسيحي لبيروت الكبرى، حيث جزء كبير من المطاعم والفنادق والحانات، وكذلك حيث تتمركز الطبقة الوسطى المسيحية البيروتية.
هذا التفجير، سواء كان فعلاً بتدبير أو قصفاً إسرائيلياً، أم لم يكن، أحدث انفجاراً كبيراً في الوعي المسيحي. ذاك الوعي الذي كان جزءاً وازناً منه يتعامل مع قوّة “حزب الله” باعتبارها مفيدة ولا ضرر فيها، وعلى قاعدة أنّ سلاحه “يحمي” المسيحيين. لقد أدخلوا في روع هذه الفئة أن “داعش” كاد أن يصل إلى جونية لولا سلاح “حزب الله”، ولاغتصبت النساء وقتل الأطفال فيها، فصدّقوا واحتفلوا بهذه القوّة التي تحميهم من أعداء الخارج، وتطلق أيدي “العونية” و”الباسيلية” في إدارات الدولة، من دون أيّ فواتير أو عواقب.
لكنّ الوضع تغيّر بعد التفجير. للمرّة الأولى ينتبه المسيحيون إلى أنّ سلاح حزب الله يمكن أن ينفجر في وجوههم. في مناطقهم. في قلب عاصمتهم. قبلها كانت الحروب التي يخوضها حزب الله بعيدة عنهم. إما يخوضها ضدّ السنّة والدروز في بيروت والجبل، ذات 7 أيّار 2008، أو ضدّ إسرائيل، فتقصف الضاحية والجنوب، بعيداً عن مناطق المسيحيين وتجمّعاتهم الحيوية، واقتصادهم الرئيسي، كما حصل ذات تموز 2006.
الصدمة جاءت على مراحل كان آخرها مدمّراً وعنيفاً جدّاً. كان الشرخ الأساسي في الصورة حين اكتشفوا أنّ عون ليس جبّاراً، وأنّ عهده ليس عهد الإنقاذ بل عهد القطيعة مع الغرب. وسياسة ميشال عون جعلت الدولة اللبنانية، دولتهم، في مصاف “الدولة المعادية” للغرب، الذي لطالما افتخروا بأنّه حليفهم وسندهم، وبأنّهم جزء منه.
ثم اكتشفوا سريعاً أنّهم ما عادوا قادرين على الوصول إلى أموالهم في المصارف. كان يمكن أن يقبلوا أيّ شيء، إلا أن يتحوّلوا إلى فقراء معدمين، مهما كان حجم مدّخراتهم.
بعد 4 آب، باتت التفجيرات والخطورة التي يشكّلها سلاح حزب الله موضع سؤال كبير في الوعي المسيحي
هكذا، وبعد 4 آب 2020 تغيّر كلّ شيء في الوعي المسيحي. وربما لهذا السبب تستعجل بعض الدوائر في الداخل والخارج الترويج لانتخابات نيابية مبكرة، تقرّش التراجع العوني والتقدّم القواتي وتقدّم المستقلّين والمدنيين في البيئة المسيحية.
كان قد سبق تفجير المرفأ تهديداتٌ بعقوباتٍ أميركية على مسيحيين قريبين من حزب الله، وكان اسم جبران باسيل يتردّد بقوّة في “الترشيحات” الأسبوعية على لوائح العقوبات. ومنذ ذلك الحين بدأ المسيحيون يتحسّسون رقاب امتيازاتهم في جمهورية حزب الله. فقد باتت “الحماية” لها ثمن كبير، وكبير جداً يجب أن يدفعوه.
بعد 4 آب، باتت التفجيرات والخطورة التي يشكّلها سلاح حزب الله موضع سؤال كبير في الوعي المسيحي. فالقنبلة شبه النووية انفجرت في الوعي المسيحي قبل أن تننفجر في مرفأ بيروت. وانفجرت في الفكرة التي قامت عليها نظرية “حلف الأقليّات”. وما عاد الحديث عن عقوبات “على أسماء مسيحية” كلامٌ بعيد.
بعد 4 آب، انتبه المسيحيون إلى أنّ اللعب مع السلاح أذاه شديد، وأكبر من قدرتهم على الاحتمال. وأنّ السلاح قريبٌ جداً منهم، بين بيوتهم، وقد تكون كلفته عالية جداً على “وجودهم”. فآلاف البيوت ما عادت صالحة للسكن في الجمّيزة والصيفي. تلك البيوت القديمة، المتهلهلة، جاء التفجير ليخرجها نهائياً من الخدمة. وهي، في عمرها وحالتها، تشبه “الوجود المسيحي” نفسه، القديم، والجالس على بركان صواريخ وأسلحة، وهو يظنّ أنّها لن تنفجر به… لكنّها انفجرت، وستنفجر أكثر إذا لم يصحُ من الغيبوبة العونية.