نصر الله بين خطابين: من القلق إلى “الأزمة الوجودية”!

مدة القراءة 7 د


قد يكون ما ختم به الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله خطابه الأول (7 آب) عقب التفجير الهائل لمرفأ بيروت، وما تضمّنه الخطاب الثاني (14 آب) عقب سقوط الحكومة أو إسقاطها ذاتياً، هو الرسالة الخاصة جداً لجمهور الحزب وأنصاره. فالتعجّل بالخطاب الأول مبكراً قبل انقضاء مهلة الخمسة الأيام، لإنجاز التحقيق اللبناني في قضية العنبر رقم 12 وما كان يحويه، وما حدث فيه، هو كمثل مقتضيات الخطاب الثاني وإن احتفاءً بالذكرى الرابعة عشرة لحرب تموز، بعد تواتر الوفود الدولية ومعهم فرق التحقيق والبوارج الحربية إلى بحر بيروت، في لحظة سياسية سانحة لتحقيق تغيير حقيقي في المشهد اللبناني عقب كارثة المرفأ، ليس أقله تشكيل حكومة حيادية بتجاوز انتخابات 2018 وما أفرزته من أغلبية نيابية وتحكّم بالسلطتين التنفيذية والقضائية.

إقرأ أيضاً: يا سيّد دع الناس تعيش..

لقد قالها صراحة في خطاب القلق لجمهور الحزب: “الوضع الدولي والإقليمي مختلف. والمقاومة وضعها مختلف. لا داعي للقلق. هؤلاء يبحثون عن سراب ويخيبون”. ويقصد هنا، الجهات السياسية والإعلامية التي تسعى برأيه إلى تحميل الحزب المسؤولية عن الانفجار سواء أكان نتيجة إهمال رسمي، أم كان عملاً داخلياً أو خارجياً مدبّراً. ويلخّص الموقف العام في بيئة الحزب جرّاء الكارثة الوطنية بالقول: “هذه المقاومة بمصداقيتها، وصدقيتها، وأدائها، وسلوكها…وبقوّتها وموقعها الوطني والإقليمي، أعظم من أن ينالها بعض الظالمين الكاذبين المزوّرين للحقائق، الدافعين إلى الحرب الأهلية. يمكن أن نعبر هذه المرحلة، ونخرج منها أقوى وأشدّ”. هنا يرسم نصر الله المعادلة التالية: اتهام حزب الله بمسؤولية ما عن انفجار المرفأ يساوي التحضير لحرب أهلية جديدة.

ما وراء الخطابين، يشي بما أراد السيّد نصر الله استيعابه والإحاطة به وحماية “جمهور المقاومة” منه، وهو الخبير بلا ريب في هذا الجانب. ونجح في محطّات دقيقة كثيرة في جذب أنصاره، إلى منطقه الخاص في رؤية العويصات من الأمور ومعضلاتها

ثم قالها على نحوٍ أوضح في الخطاب الثاني: “كانت هناك حال من الغضب في جمهورنا بالأيام الماضية، وطلبنا ضبط الوضع لأنّه من الواضح أنّ هناك من يحاول جرّ الأمور للاقتتال. ونقول لجمهورنا: احفظوا هذا الغضب لأننا قد نحتاجه يوماً لننهي كلّ محاولات جرّ لبنان إلى حرب أهلية”. ومفاد هذا الكلام أو مغزاه، التماهي مع الرأي العام في بيئة الحزب، والتي تطالب منذ مدة طويلة بتكرار هجمة 7 أيار، لاقتلاع كلّ الأعداء مرة واحدة، “ونستريح”. ولسان الحال يقول: “لم نعد نحتمل رأياً، ولا مقالاً، ولا حواراً متلفزاً، ولا مذيعاً، ولا كاتباً، ولا أيّ شيء. الكلام هو للسِّنان لا لطقطقة الأسنان!”. لكن السيّد نصر الله، مع أنّه يميل ظاهراً مع جمهوره المتحمّس، إلا أنّه يضع غاية أيّ تحرّك ميداني مفترض، وهو إحباط حرب أهلية مفترضة. وهنا ترتسم معادلة أخرى، مطوّرة عن المعادلة الأولى: لن نكتفي بكظم الغيظ بإزاء الاتهامات، بل سنتحرّك تحت شعار منع حرب أهلية.  

ما وراء الخطابين، يشي بما أراد السيّد نصر الله استيعابه والإحاطة به وحماية “جمهور المقاومة” منه، وهو الخبير بلا ريب في هذا الجانب. ونجح في محطّات دقيقة كثيرة في جذب أنصاره، إلى منطقه الخاص في رؤية العويصات من الأمور ومعضلاتها، ليس أقلّها شأناً مسألة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما تبعه، وحرب تموز 2006 وتبعاتها الإنسانية والسياسية، والاعتصام في وسط بيروت والضغط جماهيرياً لإسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ثم التمهيد لهجوم 7 أيار على مكاتب تيار المستقبل في بيروت، وتبريره بعده، وفي كلّ مناسبة. وليس آخراً، تسويغ التدخل عسكرياً في الأزمة السورية، تدريجياً وإلى درجة الالتحام التام في معركة مصير النظام بدمشق.

لكن هذه المحطة قد تكون الأصعب على الإطلاق من نواحٍ عدة، تلتقي كلها في نقطة بالغة الحساسية، وهي أنّ الحزب الذي بنى أسطورته على نجاحاته العسكرية في مواجهة إسرائيل، كما في مساندة حلفائه في أكثر من بلد عربي، يواجه الآن في لبنان، البلد الأم، أخطر أزمة وجودية، ليس بسبب ضعف طارئ أو بنيوي في هيكيلة الحزب نفسه. بل لأنّه كحركة عسكرية لا يمكنه الاطمئنان والاستقرار من دون حاضنة شعبية واسعة وملتزمة ومقتنعة بأهدافه ووسائله وأفكاره الأيديولوجية وكذلك بمنافعه العامة لهذه الحاضنة تحديداً، كما للحلفاء والآخرين أيضاً، بل لا يمكنه الصمود من دون هياكل دولة مهما كانت مهلهلة، كما جاء في خطابه الثاني: “شهدنا محاولة لإسقاط الدولة في الساعات الأولى للانفجار حيث قامت قوى سياسية ووسائل إعلام باستغلال آلام الناس عبر استهداف ليس فقط حزب الله، بل العهد وتحميلهما المسؤولية”، بلغت الهشاشة بالدولة أنها تسقط بمجرّد استقالة المسؤولين فيها!.

القلق الباطني، وهو الأخطر، فيتعلّق بمعادلة الردع التي أسّستها حرب تموز 2006. وهل من المصادفة أن تتزامن الذكرى الرابعة عشرة لهذه الحرب، مع انفجار مرفق حيوي في بيروت، كان أشار إليه قادة الكيان الصهيوني، بوصفه أحد مرتكزات الحزب في لبنان؟

فما يعتري الحاضنة الطبيعية لحزب الله، قلق من نوع آخر، ظاهر وباطن. القلق الظاهري من انهيار الدولة التي تشكّل الوعاء الجامع لهذه الحاضنة وبقية المكوّنات الطائفية والحزبية والسياسية. وجزء كبير من هذا الانهيار، سببه قرار اللامبالاة الدولية بمصير هذا البلد، وهو الذي نسمّيه أحياناً “حصاراً”، في حين أنّه واقعاً أقل من ذلك بكثير، بل هو “ترك لبنان لمصيره دون أيّ عون”. أما الجزء الآخر من هذا الانهيار، فسببه فشل حلفاء الحزب وهم يسيطرون على كلّ شيء، منذ أربع سنوات تقريباً، من النهوض بهذه الدولة من عقمها، وفشلها، وتهافتها، وتحجّرها، وتضخّمها. والنتيجة واحدة، وهي السقوط الذي لا يوفّر أحداً.

أما القلق الباطني، وهو الأخطر، فيتعلّق بمعادلة الردع التي أسّستها حرب تموز 2006. وهل من المصادفة أن تتزامن الذكرى الرابعة عشرة لهذه الحرب، مع انفجار مرفق حيوي في بيروت، كان أشار إليه قادة الكيان الصهيوني، بوصفه أحد مرتكزات الحزب في لبنان؟

أسئلة كثيرة راودت “جمهور الحزب” وظهرت في الأحاديث اليومية منذ 4 آب، وتُظهر عدم تصديق لرواية الفساد وتحميله هو ورموزه كلّ المسؤولية عن الكارثة. فماذا لو كان غدراً إسرائيلياً من خارج الصندوق، من خارج قواعد الاشتباك؟ وما يعني انتهاك تلك القواعد؟ وما يعني عدم الردّ على إسرائيل؟ هل سقطت معادلة الردع؟ هل تحتاج إلى ترميم؟ وكيف يمكن ترميمها والسفن الحربية تتقاطر إلى الشاطئ اللبناني؟ هل يكون بالاكتفاء بالصمت واعتبار أنّ ما حدث هو خارج المسرح المعتاد للعمليات، وكأنّ شيئاً لم يقع؟ من المفارقة أنّ اتهام إسرائيل بتفجير المرفأ بات يعادل العمالة لإسرائيل!

إن السيّد نصر الله في خطابه الثاني، وفي هذا المجال، طرح معادلة جديدة، أو حاول إحياء معادلة قديمة وهي (الشعب والجيش والمقاومة)، ودور هذه المعادلة مجتمعة في الردّ على إسرائيل إن كانت هي الجهة الفاعلة، فقال: “إذا توصّل التحقيق اللبناني إلى أنّ إسرائيل لها علاقة بالانفجار، فمن عليه أن يردّ؟ هي الدولة اللبنانية بكلّ مؤسساتها، وكلّ الشعب اللبناني، لأنه سيكون عدوان إسرائيل على لبنان بكلّ طوائفه كدولة… نحن كمقاومة لا نستطيع أن نتحمّل مسؤولية الأمن القومي ببعده الداخلي”. هذا هو أول تطبيق لمثالثة من نوع آخر. وربما يكون أول إرهاص من إرهاصات استراتيجية دفاعية طال انتظارها، تحت عنوان “حماية الأمن القومي، لكن ببعده الداخلي”.

 

مواضيع ذات صلة

بشّار: معي كلّ المسلمين ونصف المسيحيّين!

فيما الأنظار منصبّة على الجيش اللبناني والتوغّل الإسرائيلي. وفيما ننتظر ردود اللجنة الخماسية، أو زيارة آموس هوكستين، أو مقرّرات الحكومة اللبنانية. وفيما القلب على سوريا…

تحصين سعوديّ لسوريا ولبنان معاً: لا عودة للوراء؟

آليّة تطبيق القرار الدولي 1701 في لبنان تنتظر انتخاب رئيس للجمهورية في 9 كانون الثاني تتّفق هويّته مع بنود اتّفاق وقف النار. تستفيد إسرائيل من…

الشرع من “الإمارة الإسلاميّة” إلى “الدّولة الوسيطة”؟

عام 2014، أعلن الجولاني أنّه بصدد إقامة إمارة إسلامية في سوريا، وذلك بعد رفضه خلافة البغدادي، ومبايعته تنظيم “القاعدة”. وكانت غايته رفض قيام دولة علمانية…

كيف دبّروا فتنة “الميلاد” السّوريّ؟

ارتكبت إيران خطيئة كبرى بإعلانها الحرب ضدّ “سوريا الجديدة”. تراجعت وزارة الخارجية الإيرانية عن إعلانها السابق عن جهود لفتح السفارة الإيرانية في دمشق. قالت المتحدّثة…