لبنان بين طرحين: فرنسي وآخر أميركي. لبنان حصة أميركية، بجيشه ومساعداته، وبالسعي الأميركي لتغيير السلطة وإدخال عناصر جديدة عليها، وبشروط حول دور اليونيفيل في المرفأ والمطار والحدود مع سوريا، وبسفارة تعتبر من أضخم السفارات على البحر الأبيض المتوسط. ولبنان أساسي وفق مندرجات صفقة القرن الأميركية. الشروط الأميركية استراتيجية وبعيدة المدى. ومنذ الضغوط والعقوبات والحصار، انتهجت واشنطن سياسة النفس الطويل والقضم البطيء، كما حصل في العراق. حتى خرج رئيس مجلس النواب يعلن وصول ملف ترسيم الحدود إلى خواتيمه، بدون مفاوضات حتى.
إقرأ أيضاً: ماكرون “بي الكل”: الحياد… والمثالثة!
في الخلاصة صبرت واشنطن على ضغوطها بعد حصار وغياب ومقاطعة للبنان، حتى جاءها اللبنانيون يعلنون امتثالهم لمطالبها في ملف ترسيم الحدود. وهذا الملف لن يكون مفصولاً عن غيره من الملفات، كصواريخ حزب الله، والتنقيب عن النفط، في المسار الاستراتيجي، وتغيير الحكومة ومجلس النواب في المسار السياسي. لبنان هو الذي يريد إنجاز الترسيم، وبدء عمليات التنقيب، التي توجب تثبيت الاستقرار، أي وقف العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل، أو تفعيل العمل باتفاقية الهدنة، إلى جانب وقف أنشطة الحزب العسكرية خارج الحدود اللبنانية.
التنسيق الفرنسي مع الأميركيين جاء بعد تفجير هائل استهدف مرفأ بيروت. لم يحصل التفجير بشكل عرضي، ولا نتيجة خطأ. ما حصل أكبر من قدرة أي طرف على تبنّيه بنتيجة الاضرار الهائلة
لا يمكن لأميركا أن تتنازل عن هذه المطالب، ولو رضيت بالتنازل لما كان إصرارها على الاستمرار بسياسة العقوبات والضغوط. فاللوصول إلى قبولها بتشكيل حكومة وحدة وطنية يكون حزب الله في عدادها، وتعيد انفتاحها على لبنان، مستحيل إلا إذا قدم حزب الله التنازل المطلوب. طرح حكومة الوحدة الوطنية هو طرح فرنسي يعمل الرئيس إيمانويل ماكرون على تعبيد الطريق أمامه. هنا يأتي الطرح الفرنسي، في ذكرى مئوية لبنان الكبير، لأن فرنسا تريد الحفاظ على موطئ قدمها المتقدمة في الشرق الأوسط، من ليبيا الى لبنان.
لا تمانع باريس في طرحها من تأجيل النقاش في سلاح حزب الله، وصواريخه الدقيقة، والبحث عن تغيير للسلوك والنأي بالنفس ووقف التدخل في الملفات الخارجية، والعمل على إنجاز اصلاحات وترسيم الحدود. هذا الطرح يلاقيه حزب الله بإيجابية، باعتباره باباً لفتح مسار المفاوضات الذي سيمكنه من طرح أوراق وكسب الوقت بانتظار التسوية الأكبر، إلى أن تكون ايران قد حسّنت شروطها أو رضخت للأمر الواقع بعد الانتخابات الاميركية.
منذ أشهر، تطالب فرنسا وتسعى مع الاميركيين لأجل أخذ دور على عاتقها في لبنان، منذ رعاية حكومة حسان دياب الى رفع الغطاء عنها بعد موقف ماكرون، تزداد القناعة الاميركية بأنّ المسار الفرنسي لن يؤدي إلى النتيجة المطلوبة. لكن واشنطن لا تمانع منح فرصة لباريس بلعب دور للاحتفاظ بوجودها في لبنان، وطالما أن فرنسا لن تتمكن من تحقيق شيء لا توافق عليه واشنطن، ومؤتمر سيدر أبرز الدلائل. التنسيق الفرنسي مع الأميركيين جاء بعد تفجير هائل استهدف مرفأ بيروت. لم يحصل التفجير بشكل عرضي، ولا نتيجة خطأ. ما حصل أكبر من قدرة أي طرف على تبنّيه بنتيجة الاضرار الهائلة. لذلك انتهز ماكرون فرصة سعي الدول إلى لملمة تداعيات تفجير المرفأ والتعتيم على الأسباب الحقيقية للانفجار.
عملية اللملمة توجب الايحاء بوجود مساعي ومبادرات وتسويات، وتقديم مساعدات، وطرح شروط وفروض وسعي لتقديم تنازلات متبادلة. وهذا الدور الذي تضطلع به باريس، وتجلّى في المؤتمر الدولي لدعم لبنان، وخصص مبالغ مالية مخصصة فقط للتعويض على المتضريين وتوفير مساعدات غذائية وطبية… كل ما يجري من مساع، هو تحت خانة مساعي اللملمة. ومن ضمنه طرح الذهاب إلى طرح تشكيل حكومة جديدة، واجراء انتخابات نيابية مبكرة.
ينحصر مؤتمر الدعم الدولي الذي عقد أمس في تقديم مساعدات إنسانية بحتة، لن تؤثر في الاقتصاد وانهياره، ولن يكون لها تبعات مالية وسياسية تستفيد منها الحكومة أو العهد أو حزب الله
جاء الجواب سريعاً من قبل حزب الله: الحكومة باقية، ولا انتخابات مبكرة. يعني ذلك أن الحزب تلقف المبادرة الفرنسية في معنى كسب الوقت وكسر العزلة وفتح باب التفاوض على حكومة وحدة وطنية، ولم يتجاوب مع شروط الأميركيين إلا بملف ترسيم الحدود. هذا الملف سيبحثه ديفيد هيل مع المسؤولين اللبنانيين في الأيام المقبلة، لكنه أيضاً سيطرح شروطاً أخرى ليس هناك من جهوزية لمناقشتها.
يمكن تقسيم المسعى الدولي حول لبنان إلى مستويين: تسوية أولية، هي عبارة عن تشكيل حكومة وترسيم حدود، مقابل تخفيف الضغوط والدخول في حوار ومفاوضات جدية إلى أن يأتي التوافق على تسوية ثانية أساسية ترتبط بمشروع إيران في المنطقة، ويطرح فيها ملف الوجود الايراني في سوريا ولبنان والعراق، وملف سلاح حزب الله وكل الملفات العالقة. وفي أي وقت ايضاً فإن كل هذه المساعي قد تصطدم بحسابات متضاربة تعيد الأمور إلى نقطة الصفر.
ينحصر مؤتمر الدعم الدولي الذي عقد أمس في تقديم مساعدات إنسانية بحتة، لن تؤثر في الاقتصاد وانهياره، ولن يكون لها تبعات مالية وسياسية تستفيد منها الحكومة أو العهد أو حزب الله. لعلّ الموقف الاهم الذي أطلق بعد المؤتمر هو موقف وزير الخارجية السعودي، الذي قال:” نعرف سوابق حزب الله في تخزين مواد متفجرة في دول عديدة، وما يثير القلق هو هيمنة حزب الله المدمرة.” هذا الموقف تلتقي عليه السعودية وأميركا، وهو حتماً لا يلتقي مع المسعى الفرنسي. لننتظر.