لو أنّ إسرائيل كانت بطريقة ما وراء انفجار مرفأ بيروت، أفلا يعني ذلك أنّ بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء المأزوم داخلياً، ينتهك قواعد الاشتباك مع حزب الله، ويغامر بخوض حرب مفتوحة لا يريدها الطرفان الآن، من حيث المبدأ؟
قد يقال إنّ الظروف مناسبة لكلا الطرفين لحرب محدودة، ذات أهداف داخلية بحتة، حزب الله بمواجهة نطق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ونتنياهو الهارب من المأزق السياسي والاقتصادي في الداخل. لكن إن صحّ الافتراض المذكور، ألا يكون من الخطأ حينئذ قيام إسرائيل بضربة كبيرة بهذا الحجم الاستراتيجي بالنسبة للبنان ككلّ؟ بعبارة أخرى، إن كان إخراج مرفأ بيروت من الخدمة، بتفجير هائل ومرعب، يمكن أن يكون رسالة بالغة القوة، إلى حزب الله وإلى الحكومة معاً، بعد صعوبة الفَصْم بينهما، وإلى الشعب اللبناني بكامله سواء أكان مؤيداً للحزب أم معارضاً له، فإنّه بالمقابل لا يخدم تماماً استراتيجية تأليب الناس على حامل البندقية، وهو ما برعت فيه إسرائيل إبان هيمنة منظمة التحرير الفلسطينية على بيروت الغربية وأجزاء واسعة من لبنان، ما بين اتفاق القاهرة عام 1969 الذي شرّع السلاح الفلسطيني المقاوم، واتفاق فيليب حبيب عام 1982 الذي نظّم خروج منظمة التحرير من بيروت.
إقرأ أيضاً: هل هو عمل تخريبي؟ … عسكريون يجيبون: كل شيء وارد
فتفجير مرفأ استراتيجي وحيوي لكلّ الشعب اللبناني، ليس أقلّ من إعلان حرب ضمناً على لبنان كدولة. علماً أنّ حكومة الاحتلال الإسرائيلي هدّدت أكثر من مرة، الحكومة اللبنانية بعواقب احتضانها المطلق لحزب الله. وألمح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، في 23 تموز 2019 إلى أنّ مرفأ بيروت، بالإضافة إلى مطارها ومطار دمشق، تعدّ أهدافاً محتملة للغارات الإسرائيلية، معتبراً إياها معابر تستخدمها إيران لنقل أسلحتها إلى حزب الله. وأرفق أدرعي المنشور بتعليق كتب فيه: “مرفأ بيروت يستخدم كمحور نقل بحري للأسلحة من إيران إلى حزب الله، ويستخدم مطار بيروت كمسار جوي، إلى جانبه منشآت لتحويل صواريخ إلى دقيقة”. ثم أعلنت مصادر عسكرية إسرائيلية نهاية تموز الماضي عن تعيين عشرة مواقع حيوية في لبنان لقصفها في حال قيام حزب الله باستهداف إسرائيليين، مدنيين أو عسكريين. لكن هذه المعادلة الجديدة مربوطة بفعل عسكري من حزب الله، أي ضرب مواقع حيوية لبنانية (والمرفأ من ضمنها حتماً) في مقابل أيّ هجوم. لكن تفجير المرفأ لا ينصرف حتى في ثنايا هذه المعادلة المعلنة، بل هو – إن كان عملاً عدوانياً – يصنّف كضربة استباقية أكبر بكثير من مجرّد حركة ردعية محدودة، بل هو تغيير في المعادلة كلها.
لقد اعتمدت الاستراتيجية الإسرائيلية في مواجهة تنظيمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية حتى عام 1982، على ضرب البيئة المدنية الحاضنة وتحميلها عواقب العمل الفدائي
علينا مقاربة الحالة من زاوية مختلفة. فلعلّ تفجير المرفأ إشارة قاسية إلى تحوّل حاسم في الاستراتيجية الإسرائيلية. مفاجأة من الوزن الثقيل، لم يكن حزب الله يتوقّعها لا سيما بعد استيعاب مقتل عنصر له في سوريا، وتنفيس الاحتقان بصدام مضبوط في مزارع شبعا. بعبارة أكثر وضوحاً، لو أنّ انفجار المرفأ لم يكن حادثاً عَرَضياً، بل عملية إسرائيلية غامضة ذات أهمية استراتيجية بآثارها المباشرة وعواقبها على ميزان القوى، بل على معادلة الردع المتوازي، فسنكون أمام مشهد جديد تماماً. وسينكبّ قادة حزب الله على دراسة الموقف المستجدّ، لإيجاد الجواب المناسب، واستعادة زمام المبادرة، بأسرع وقت ممكن.
لقد اعتمدت الاستراتيجية الإسرائيلية في مواجهة تنظيمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية حتى عام 1982، على ضرب البيئة المدنية الحاضنة وتحميلها عواقب العمل الفدائي، وصولاً إلى استخدام القوة الكاملة لاجتثاث التنظيمات كما حدث في اجتياحين بريين للبنان عامي 1978 و1982. وما بين عامي 1982 و2000، استعانت إسرائيل بقوات لبنانية متعاونة معها لتكون خطّ الدفاع الأول عنها في الشريط الجنوبي المحتل. ومع وقوع الجيش الإسرائيلي في فخّ الاستنزاف الطويل الأمد، قرّرت إسرائيل الانسحاب من لبنان من طرف واحد عام 2000، بعدما وجد رئيس وزراء العدو السابق إيهود باراك، أنّه عليه مواجهة نمط العدو المختلط hybrid enemy الذي يمثّله حزب الله بالطريقة نفسها. فالحزب لم يعد فقط قوة غير نظامية تنتهج حرب العصابات. بل زاد على ذلك، تحوّله إلى حزب سياسي معترف به، ولديه نواب منتخبون في البرلمان، أي جزء من النظام السياسي اللبناني. فارتكزت فكرة الانسحاب الإسرائيلي على سحب ورقة المقاومة من يد الحزب، وبثّ الشقاق بينه وبقية الأحزاب والقوى اللبنانية. وفي حرب تموز 2006، أرادت حكومة إيهود أولمرت الانتصار على الحزب دون التورّط بحرب برية، والاكتفاء بالحرب النارية جواً وبراً وبحراً، وتدمير البيئة المدنية الموالية للحزب، من أجل إقناعه بالهزيمة. فشلت الاستراتيجية، واضطر الجيش الإسرائيلي إلى الدخول برّاً، فوقع في فخّ الصواريخ المضادة للدبابات.
يبدو أنّ لحظة انهيار الدولة اللبنانية اقتصادياً، مناسبة جداً لممارسة هذا النوع من الضغوط، باجتثاث المواقع الحيوية الواحد تلو الآخر، إلى أن يركع لبنان، ومعه الحزب ضمناً
بعد تلك الحرب، عكف الخبراء العسكريون في إسرائيل على تجديد الاستراتيجية العسكرية، فكان أولاً الردع المتوازي، فأصبح يمثّل قواعد الاشتباك التي تعني الامتناع عن الحرب الشاملة والاكتفاء بالردود المحدودة المتبادلة. ويبدو أننا في مرحلة ثانية، لا تكتفي خلالها إسرائيل بالردع المتوازي، بل تعمل أيضاً على إسقاط الدولة الحاضنة للحزب، لزعزعة أركانه، وإجباره على الانكفاء، تحت طائلة انقلاب الحاضنة الشعبية عليه، من خلال إقناعها هي لا هو، بأنّه غير قادر على التغلّب على إسرائيل، بخلاف ما يعلن الحزب لأنصاره. ويبدو أنّ لحظة انهيار الدولة اللبنانية اقتصادياً، مناسبة جداً لممارسة هذا النوع من الضغوط، باجتثاث المواقع الحيوية الواحد تلو الآخر، إلى أن يركع لبنان، ومعه الحزب ضمناً. يضاف إلى ذلك، إعلان إسرائيل استعدادها لمساعدة لبنان في مأساته، بعد نفيها المطلق لأيّ تورّط لها في الانفجار. ويندرج الإعلان في محاولة التأثير نفسياً في الشعب اللبناني ككلّ.
بعد كلّ ما سبق، قد يكون الانفجار مجرّد حادث، ناتج عن خطأ أو إهمال. لكن حتى لو كان حادثاً منفصلاً عن السياق السياسي والاستراتيجي، فإنّ عواقبه تصبّ حتماً في الاستراتيجية الإسرائيلية الردعية، وهو يفتتح مساراً مختلفاً بكلّ المقاييس.