(ملاحظة: هذا المقال كتب قبل انفجار بيروت أمس)
صارت المواجهة العسكرية مع إسرائيل مهزلة: “حزب الله” يستجدي التفاوض، ويصعب تصوّر أن يلقى تجاوباً. وإذا افترضنا أنّ جهةً ما أو دولةً ما قبلت بالتفاوض معه فلن يتغيّر شيء في الأوضاع اللبنانية. ستبقى الأزمة المالية الاقتصادية قائمة لأنّ دول الخليج لن تدفع فلساً للبنان، بل هي ترحّب بالتعجيل في عملية ضرب الحزب الذي يسيطر على هذه البلاد بكل الوسائل.
في هذا الجو الضاغط يَطّلع السيد حسن نصرالله بالتأكيد على تقارير يتلقاها يوميا تفيده بأن الوضع الداخلي في إسرائيل سيّئ جداً. هناك موجة كورونا فتاكة أكثر بكثير مما تفعل في لبنان. وهناك أزمة اقتصادية خانقة لكن بشكل أقلّ بكثير من لبنان. وأيضاً انقسام سياسي لا سابق له.
يُمكن القول إنّه لو وقعت هذه الأزمة في لبنان قبل 10 سنوات لكان الحزب أشعل الجبهة الحدودية الجنوبية لتخفيف الضغط عليه، وفرض التفاوض معه على دول الخليج والمجتمع الدولي.
إقرأ أيضاً: واشنطن: طريق طهران بيروت الجوّي تحت عيوننا ولا كهرباء من سوريا
رغم ذلك، يبدو الظرف الإسرائيلي الحالي نموذجياً للحزب لتحقيق هذه الغاية، فلماذا لا يستغله؟
ملامح الجواب تفرض العودة إلى الخريطة الأساسية: الوضع الداخلي اللبناني.
لا حاجة إلى جهد ذهني لاستنتاج أنّ عودة بعض الجهات اللبنانية إلى طرح فكرة الفيديرالية ثم فكرة الحياد تعني أنّ فئة واسعة من اللبنانيين لم تعد تتحمل الحياة مع هذا الحزب. هؤلاء اللبنانيون لا يريدون دفع ثمن مغامراته الإقليمية في خدمة نظام الثورة الإسلامية في إيران، ويجمعون على تخلّف هويته الثقافية التي لا تشبه ثقافة لبنان كما أحبّوه وضحّوا كثيراً في سبيله.
أي أنّهم يقولون للحزب بصوت عالٍ، ولكن بطريقة ديبلوماسية، سواء باقتراح الحياد أو الفيديرالية: لم نعد قادرين على العيش معك أيّها الحزب المسلح والميليشيا. ولا نريد.
هذا الوضع الجديد يشكل أوّل عامل يحمل “حزب الله” على التفكير مليّاً قبل إشعال الجبهة الجنوبية. فهو بات يدرك أنّه لن يتكرّر مشهد احتضان لاجئي بيئة الحزب الشعبية، كما حصل في حرب 2006، التي انتهت بعبارة: “لو كنت أعلم” الشهيرة.
العامل الثاني الذي يحمل الحزب على التردّد هو تأثيرات صدور الحكم في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه في 7 آب المقبل، وضرورة السعي إلى احتواء الإدانة المرتقبة من أعلى محكمة دولية، وأهمية التعامل مع هذا المعطى الحساس للحزب بدقة وتركيز ومسؤولية عالية، من أجل استيعاب مشاعر سلبية راكمها مسلمون سُنّة ودروز ونسبة كبيرة من المسيحيين، ونسبة أقلّ من الشيعة المعارضين، على حزب الله ومرجعيته الإيرانية.
احتمال التصعيد هو الأرجح، لا بل هو السائد في الجوار، وقد يصل إلى لبنان. فلنلاحظ الخطاب السياسي لهذه التصعيد، والذي بدأ يتشكل منذ مدّة
فوق ذلك صارت هذه المكونات تخشى أن يكون وجودها في حدّ ذاته معرّضاً للخطر بسبب “حزب الله” في عزّ أقسى أزمة مالية واقتصادية واجهها لبنان منذ مئة عام وأكثر.
لن يغيب عن أذهان قيادة “حزب الله” أيضاً أنّه للمرة الأولى لن يواجه اسرائيل وحدها، بل كل دول “التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب”، وهي جبهة واحدة مهما كانت الفروق بين مصالحها وتوجهاتها.
ثم إنّ الأحقاد عليه، التي خلّفها وراء الجبهة المفترضة، قد تفاجئه بأعمال مسلحة ضده في الداخل اللبناني، رغم أنّ هذا احتمال بعيد حالياً، لكنّه قابل للتحقّق وسط سعي تركي وغير تركي للتسلح في بيئات عديدة. في المقابل ستنتهي الأزمة الحكومية في إسرائيل فور اندلاع حرب ويتوحد الجميع خلف حكومة نتنياهو – غانتس، بينما سيتوحّد خصوم الحزب ضده في لبنان وخارجه. أما الحلفاء – آه من الحلفاء! – فسيحاولون التمايز عنه بكل الوسائل. المرحلة السابقة وصفحات “ويكيليكس” حافلة بالشواهد. كيف يذهب إلى حرب والأرض التي يقف عليها هشّة وستزداد هشاشة؟
لهذا كله وغيره تبقى ضعيفة احتمالات أن يبادر بعمل هجومي، رغم ضربات متلاحقة يتلقّاها في سوريا والعراق. الأفضل بالنسبة إليه هو ما يفعله بالضبط: أن يتألّم ويلتزم الصمت، أو يرد وهمياً.
ماذا عن الجانب الآخر؟
احتمال التصعيد هو الأرجح، لا بل هو السائد في الجوار، وقد يصل إلى لبنان. فلنلاحظ الخطاب السياسي لهذه التصعيد، والذي بدأ يتشكل منذ مدّة. وقوامه الآتي:
– الحرب لإنقاذ لبنان وليست لتدميره.
– الحرب أصلاً على الحزب وليست على لبنان.
-“حزب الله” هو سبب الأزمات الاقتصادية والسياسية في لبنان.
-“حزب الله” مُدان بالإرهاب والقتل، وتجارة المخدرات والجنس والبشر، وغسل الأموال في كل قارات الأرض.
– من يريد أن يلتحق بهذا المحور أو التنظيم فليتحمّل نتيجة خياره ويدفع الثمن، وسيكون الثمن فادحاً.
لكن كيف ستتوزّع الأدوار؟
التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة يُحتمل أن يتولّى هو المهمة. قبل حرب تحرير الكويت قام تحالف دولي مشابه ولم يتردّد صدام حسين في قصف إسرائيل لنقل الموضوع إلى مكان آخر. طلبت واشنطن من إسرائيل التزام الهدوء وعدم الردّ لأنّ التحالف الدولي هو الذي سيضرب صدام ونظامه. وهذا ما حصل.
السؤال التالي: أي نوع من التصعيد يمكن أن يواجه “حزب الله”؟
استهداف سفارات دول التحالف ورعاياها فورطة أكبر جرّبها الحزب في الثمانينيات، ولمس لاجدواها، بل أضرارها الهائلة عليه
نموذج الحرب الجديدة هو نموذج “حرب الظلّ”: الغارات والضربات المجهولة – المعلومة في سوريا والعراق وإيران، والمرشحة للانتقال إلى لبنان. نموذج تصفية قاسم سليماني .
ماذا لو انتقل “التحالف” فعلاً إلى ضرب أهداف استراتيجية تخص “حزب الله” في لبنان، أكانت منشآت أو أفراداً؟
– الاحتمال الأول: سيعتبر الحزب أنّه أمام اعتداء مباشر عليه ويردّ بتصعيد كبير ومدوٍّ.
– الاحتمال الثاني: سيردّ بشكل وهمي كما فعل بعد اغتيال سليماني، وضربه لعبة بدل الجنود متذرعاً بأنّهم مساكين من يهود الفالاشا. أو كما فعل الاثنين الماضي انتقاماً لمقتل أحد قادته في سوريا بقصف إسرائيلي. عمل شيئاً على الحدود ولم يعمل.
ما هي تداعيات سير الحزب في الاحتمال الأول؟
سيعزّز نهايته ويزيد على لبنان دماراً فوق الدمار الذي يواجهه في السلم.
الأرجحية تبقى للاحتمال الثاني، أي التزام الهدوء. فالضربات المجهولة تتضمن إمكانية ألا تكون إسرائيل وراءها. وإذا ردّ الحزب في اتجاهها فسيكون المبادر إلى شنّ حرب عليها تعطيها دولياً شرعية حقّ الدفاع عن النفس. وهذه ورطة كبيرة.
أما استهداف سفارات دول التحالف ورعاياها فورطة أكبر جرّبها الحزب في الثمانينيات، ولمس لاجدواها، بل أضرارها الهائلة عليه.
الخيار الوحيد الباقي هو تجرّع كأس السم، على غرار ما فعل الإمام الراحل الخميني وهو يعلن قبوله قرار مجلس الأمن الدولي بوقف الحرب مع العراق العام 1988.
كل ما سبق نتيجته القول إنّه على “حزب الله” واللبنانيين أن يقلقوا.
في الفوضى يخسر “حزب الله”، وما كان ليذهب الى القتال في سوريا والعراق لو لم يكن مرتاحاً تماماً إلى وضعه في لبنان
“حرب الظل” هي النموذج الجديد الآتي للحرب إذا وقعت حرب، ولا مكان محدداً فيها للرد. أربعون دولة مشاركة فعلى أي دولة سيردّ الحزب؟ ثم إنّ المسؤولية عن الضربات لن تُعلن ويصعب التثبت من مصدرها والدولة المسؤولة عنها. والضربات المجهولة لن تخضع لمدى زمني ضاغط كالحروب العادية . يمكن أن تستمرّ أسبوعاً أو شهوراً أو سنوات ولا أحد يحكي عنها، خصوصاً أنّها تقع خارج إطار المجتمع الدولي. لا تجتمع جمعية الأمم المتحدة أو مجلس الأمن من أجل “حرب ظل”.
هذه الحرب، المعتمدة والدائرة في جوار لبنان والمنطقة، تبين لمن أطلقوها أنها الوحيدة التي تحقق نتائج حاسمة وفعّالة ضد الميليشيات، ميزتها أنّ الطرف الدائرة ضدّه يستحيل عليه استدراج من يضربونه إلى التفاوض. بالتالي لا تستطيع الميليشيات تحقيق مكاسب من خلالها.
صحيح أنّها تدخل لبنان الفوضى، ولكن من سيبالي؟ يستطيع الحزب أن يلوّح ويهدد، على سبيل المثال، بمعاقبة السُنّة أو غيرهم، لكنّه لن يلقى رداً. سيجيبونه: افعل ما تريد. يستطيع المدير العام للأمن العام عباس ابرهيم، الذي يقوم مقام كل الوزراء في الحكومة الغائبة، أن يتوجه إلى العرب والغرب بما مفاده: “إذا كنتم تريدون إعادة الرئيس سعد الحريري إلى السرايا فيمكن إعادته، ولكن عليكم في المقابل أن…”. سيتلقّى جواباً فورياً/ “لا نريد شيئاً. لا يهمنا . لا يعنينا. ما خصنا. افعلوا ما تشاؤون”.
العالم ما عاد يريد سماع شروط الخاطف ولا استغاثات الرهينة.
وهناك مليون سبب ليقلق اللبنانيون من هذا الاحتمال الوارد، ذلك أنّه يدخل الفوضى عنصراً جديداً إلى مأساتهم المعيشية. في الفوضى يخسر “حزب الله”، وما كان ليذهب الى القتال في سوريا والعراق لو لم يكن مرتاحاً تماماً إلى وضعه في لبنان الذي هو بالنسبة إليه ثكنة ومركز تجنيد ومخزن أسلحة وذخائر في خدمة حروبه الغيبية في المنطقة. ستكون “حرب الظل” إذا انطلقت ضده في لبنان بمثابة إشعال الحريق في البيت. وليتدبر سكّان البيت أمورهم كيفما استطاعوا.
هنا سؤال آخر يُطرح: هل تنتهي أزمة لبنان إذا انسحب “حزب الله” من العراق وسوريا وأنهى تدخلاته في اليمن والبحرين وسائر الدول؟
الجواب يحمل كل عناصر الكارثة والتراجيديا: كلا. تنتهي بنهاية الحزب نفسه. إنّه سباق الموت: من ينتهي قبل الآخر، لبنان أو “حزب الله”؟