لولا المرفأ لكانت بيروت بلدة صغيرة على الشاطئ اللبناني مثل بقية البلدات من الشمال إلى الجنوب. أو لكانت مدينة عادية.. وها هي اليوم بلا مرفأ للمرة الثانية في تاريخها.
المرّة الأولى دُمّر تماماً سبب الحياة هذا، الذي بناه الفينيقيون زمن البيزنطيين، بزلزال مرعب، تحديداً يوم 9 تموز عام 551. ولّد تسونامي غمر كلّ الساحل اللبناني، وأوقع نحو 3000 قتيل في المدينة المزدهرة آنذاك، التي غطّاها التراب والركام، بحسب المؤرخ أنطونيوس تشينزا. المرّة الثانية، كانت في 4 آب 2020، بانفجار ما يعادل قنبلة نووية صغيرة في عنبر مجاور لأهراءات القمح.
إقرأ أيضاً: لغز العنبر رقم 12
عندما أرسل الخليفة عمر بن الخطاب القائد معاوية بن أبي سفيان إلى الساحل اللبناني، على رأس أحد جيوش الفتوحات الإسلامية الثلاثة، كانت بيروت لا تزال، بعد حوالي 112 عاماً على الزلزال، مدينة ميتة مدمّرة غير مأهولة. أعاد معاوية بناء مرفاً بيروت، وحوّله قاعدة عسكرية، وساعده أبناء الجبل اللبناني، الخبراء في بناء سفن حربية فيه. وألحّ معاوية على الخليفة عمر أن يسمح له بركوب البحر لفتح قبرص، فكتب عمر إلى واليه على مصر عمرو بن العاص: “صِف لي البحر”، فجاوبه:” إنّي رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلقٌ صغيرٌ. إنْ ركض حرقَ القلوب، وإنْ تحرّك أراعَ العقول. تزداد فيه العقول قلّة والسيّئات كثرةً، وهم فيه كدودٍ على عود، إنْ مال أغرقَ، وإنْ نجا فرّقَ”. فلما قرأ الخليفة عمر ما كتبه عمرو بن العاص كتب إلى معاوية: “والله لا أحمل فيه مسلماً أبداً”.
خلافاً للخليفة عمر بن الخطاب لم يكن الخليفة عثمان بن عفان متوجّساً من ركوب البحر، فأذن لمعاوية، والأخير كان صاحبَ حظوة لديه، بالهجوم على قبرص، انطلاقاً من مرفأ بيروت. وساهم أبناء الجبل اللبناني مع جيشه في فتح قبرص. منذ ذلك الحين، صارت لهذا المرفأ قيمة عسكرية كبيرة، وبدأت بيروت تتكوّن من جديد حوله كمدينة.
انطلاقاً من ميناء بيروت أصبح المسلمون، بدءاً من زمن الخليفة عثمان والخليفة معاوية، لاعباً عسكرياً في البحر الأبيض المتوسط الذي صار بحر صراع بينهم وبين الأوروبيين
تجدر الإشارة هنا إلى قرار استراتيجي اتخذه معاوية بعدما تولّى الخلافة ما زال يتحكّم في مصير لبنان حتى أيامنا هذه، وقضى بأن ينصر الموارنة على اليعاقبة ويُجزل لرهبانهم ومؤسستهم الدينية العطاءات. وربما تكون لموقفه منهم علاقة بموقفهم السياسي من الإمبراطورية البيزنطية، علماً أنه كان يجد متعة في جمع ممثّلين للفريقين الموارنة واليعاقبة والاستماع إليهم قبل أن يحسم خياره. وصار موقفه استراتيجية للدولة الإسلامية حتى قًضي على اليعاقبة. وبعد “الفتنة” أو الصراع السني – الشيعي على الخلافة وانتصار الأمويين على الزبيريين، ترسّخ الحكم بين يدي عبد الملك بن مروان، وتولّى حكم المنطقة ابنه الوليد بن عبد الملك الذي بنى المسجد الأقصى في القدس، باعتبار أنّ الزبيريين كانوا يتباهون بالأمكنة المقدسة التي يشرفون عليها. وعندما صار الوليد خليفةً أصدر قراراً بإقامة مصالحة دائمة مع الموارنة وألغى عنهم الجزية، وأمر بأن يُعاملوا كالمسلمين في كلّ شيء، وخصّهم بامتيازات تجارية كي يعتاشوا منها. علماً بأنّ البيزنطيين استخدموا الموارنة لبثّ القلاقل في صفوف المسلمين، وحلّ الخليفة الوليد المسألة معهم بالسياسة.
في هذا الوقت، كانت بيروت تنمو شيئاً فشيئاُ، وتنتقل من قرية متوسطة إلى بلدة حول المرفأ، أهم عناصرها الاجتماعية المسلمون السنّة، ولم يكن ثمّة شيعة أو دروز. واليهود كانوا يظهرون عندما يلوح نشاط تجاري مستقبلي، وجاء مسيحيون بدأوا ينزلون بأعداد قليلة، موقتاً ودورياً للعمل، وأقلية صغيرة منهم قرّرت الإقامة الدائمة. وكان الخليفة عمر بن الخطاب أوصى معاوية بأن يحاول توطين قبائل عربية حول بيروت من أهل الطائف، وهم في رأيه أهل تجارة وجبليون، ويحبون الملذات فيشبهون بذلك أهل جبال لبنان.
انطلاقاً من ميناء بيروت أصبح المسلمون، بدءاً من زمن الخليفة عثمان والخليفة معاوية، لاعباً عسكرياً في البحر الأبيض المتوسط الذي صار بحر صراع بينهم وبين الأوروبيين. على البرّ يُروى أنّ الجامع العمري الكبير حين دخل معاوية بيروت، كان كنيسة مهدّمة قرب المرفأ أقيمت على أنقاض كنيس يهودي، فأمر ببناء جامع مكانها على اسم عمر بن الخطاب. وحين دخل الصليبيون هُدم الجامع العمري، وبنيت مكانه كاتدرائية قوطية نسخة طبق الأصل من كاتدرائية القديس يوحنا مرقس في جبيل. حين عاد المسلمون حوّلوا الكاتدرائية جامعاً مرة أخرى. ومرّت سنوات إلى أن تولّى موقع المفتي في بيروت خلال حقبة العثمانيين رجل أهدى المسيحيين البيارتة أرضاً يملكها شخصياً أقاموا عليها كاتدرائية القديس جاورجيوس قبالة البرلمان في ساحة النجمة.
النقلة الكبيرة لمرفأ بيروت، كانت زمن العثمانيين الذين توجّهوا في حملاتهم العسكرية عندما بلغوا ذروة قوتهم نحو أوروبا، وعندما ضعفوا صارت بيروت نقطة صراع بين ولاة مصر وطرابلس وعكا ودمشق الطامحين
بقي مرفأ بيروت يؤدي خدمات عسكرية للدولة الإسلامية بينما خُصّصت مرافئ المدن الأخرى مثل صيدا ويافا وطرابلس للتجارة. وخلال حقبة الصليبيين، كانت صيدا مزدهرة أكثر من بيروت بكثير، وظهر الشيعة في تاريخ لبنان كعنصر فاعل في صراع مرير بين الزنكيين والأيوبيين، وعاملهم صلاح الدين الأيوبي كحلفاء للصليبيين، وأكمل بعده المماليك والعثمانيون على هذا المنوال.
النقلة الكبيرة لمرفأ بيروت، كانت زمن العثمانيين الذين توجّهوا في حملاتهم العسكرية عندما بلغوا ذروة قوتهم نحو أوروبا، وعندما ضعفوا صارت بيروت نقطة صراع بين ولاة مصر وطرابلس وعكا ودمشق الطامحين. وما لبثت الدول الأوروبية أن دخلت بنفوذها إلى المنطقة من باب حماية الأقليات في مصر وما كان يسمى بـ”ببلاد الشام”. وتكاثر حضور رعايا هذه الدول، من الفرنسيين والإنكليز والروس والطليان والهولنديين وسواهم خلال القرن التاسع عشر خصوصاً في منطقة جبل لبنان. وكان بينهم مبشّرون بنسبة كبيرة، وأطباء وأساتذة. فما كان من الدولة العثمانية إلا أن صبّت اهتمامها على بيروت لتحقيق بعض التوازن مع اهتمام دول أوروبا بأهل الجبل وجذب الأجانب إليها، فعزّزت المرفأ وتوسّعت حوله المدينة.
بيروت التي نراها اليوم هي المدينة العثمانية إلى حدٍّ كبير التي تحوّلت ولاية مع نشوء المتصرفية بعدما كانت سنجقاً. ولاية تغطي مساحة 20 ألف كيلومتر، وتمتدّ من الإسكندرونة شمالاً إلى عكا ونابلس جنوباً. وساهم حدثان مفصليان في تحوّلها شخصية متوسطية مميّزة: افتتاح “الجامعة الأميركية” الذي شكل أول تماس بين لبنان وبين العالم الجديد، وتلاها تأسيس “جامعة القديس يوسف” لليسوعيين في سياق التسابق البروتستانتي اليسوعي. والثاني الذي لا يقلّ أهميةً هو تأسيس “جمعية المقاصد الإسلامية” التي انتشرت وتعاظم دورها إلى حدّ فتح مدارس في مصر بطلب من الخديوي لتعليم المصريين، وكانت بلادهم عاصمة الحضارة العربية.
كان في ذهن الفرنسيين قبل إعلان دولة لبنان الكبير أن تبقى بيروت، بتدبيرٍ ما، مرفأً لدمشق. لكنّ إصرار البطريرك الماروني الياس الحويك ومن تكوكب حوله، حملها على تغيير رأيها
تضاعف عدد سكان بيروت مرّتين خلال ثلاثة عقود بين 1830 و1860. وعشية إعلان دولة لبنان الكبير، كان قد تضاعف ثلاثة مرّات ليبلغ 120 ألفاً. يعود قسم كبير منهم إلى مهجّري الاقتتال الأهلي في الأعوام 1841- 1845 و1860، وهؤلاء توافدوا من حلب ودمشق والبقاع وجبل لبنان الذي انتقل منه إلى بيروت 20 ألفاً في سنة 1860 وحدها. وكان العدد الأكبر من هؤلاء الوافدين الجدد مسيحيين من مذاهب شتى، فبلغوا 60 في المئة من السكان أواخر القرن 19. وصار محور بيروت – دمشق الممرّ الرئيسي للتجارة الدولية شرق المتوسط في تلك الحقبة. وصارت بيروت العاصمة الاقتصادية والقضائية والتعليمية والثقافية للبنان، إن لم نقل السياسية، مع انتقال مركز المتصرّفية من بيت الدين إلى بعبدا ليكون أقرب إلى العاصمة الجديدة. وفي 1863، أنهت “الشركة العثمانية لطريق بيروت – دمشق” طريقاً للعربات بطول 110 كيلومترات تربط بين المدينتين في 13 ساعة. وأنشئ أول اتصال تلغرافي بين بيروت وأوروبا عام 1858.
وعشية افتتاح القرن العشرين نجح أعيان بيروت في إحباط خطة تجارية بريطانية شكلت خطراً على تجارتهم ومصالحهم، تمثلت في مسعى لإنشاء خط سكة حديد لتسيير قطار بين مرفأ حيفا ودمشق، وإلى أبعد من دمشق لاحقاً في اتجاه البصرة، ما كان سينقل تجارة القمح بداية من مصدره في حوران، إلى مرفأ حيفا بدل مرفأ بيروت. بحنكة كبيرة أقنع الأعيان البيارتة الوالي العثماني بإجبار الشركة البريطانية على التخلي عن مشروعها بذريعة أنّ مرورهم في أراضي السلطنة يمثل اعتداءً، وهكذا ظلّ مرفأ بيروت يستأثر على ما يقارب 75 في المئة من تجارة الشام مع الخارج، علماً أن غالبية التجار الذين أقاموا متاجرهم ومكاتبهم في الأسواق المجاورة للمرفأ حول ساحة البرج كانوا من الشوام.
كان في ذهن الفرنسيين قبل إعلان دولة لبنان الكبير أن تبقى بيروت، بتدبيرٍ ما، مرفأً لدمشق. لكنّ إصرار البطريرك الماروني الياس الحويك ومن تكوكب حوله، حملها على تغيير رأيها. وكانت بيروت قد امتدّت من مصبّ نهر بيروت إلى رأس بيروت وازدهرت أسواقها وعمرانها كالفطر على يد بورجوازية محلية وتجّار برعوا في أعمالهم وجعلوها زهرة المدن على حوض المتوسط.
اليوم ذهب المرفأ. فهل تذهب بيروت؟
مراجع :
– “لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني”، محمد علي مكي، “دار النهار للنشر”.
– “تاريخ لبنان الحديث من الأمارة إلى الطائف”، فواز طرابلسي، “دار رياض نجيب الريس”.
– “تاريخ بيروت”، سمير قصير، “دار النهار للنشر”.