حرص الشاب الفلسطيني جهاد السويطي على تسلّق جدران المستشفى حيث ترقد والدته رسمية سويطي، البالغة من العمر 73 عاماً، والمصابة بفيروس كورونا، ليراقبها من خلف الزجاج في أيامها الأخيرة. كرّر جهاد الأمر لأيام عديدة قبل أن يتبلّغ بخبر وفاتها.
استقبلت وسائل التواصل الاجتماعي قصة جهاد بالكثير من التعاطف والتقدير، ونالت صورته وهو ينتظر والدته على شباك المستشفى الكثير من التعليقات، وتحوّلت إلى مصدر وحي لبعض الأعمال الفنية.
إقرأ أيضاً: مؤسفة روائح الكلمات في هذا المقال
لماذا نجحت هذه القصة وتلك الصورة في إثارة هذا الحجم الكبير من التعاطف في لحظة باتت المآسي جزءاً من سياق الحياة اليومية، لدرجة أنّ ما يحدث في شتى بقاع الأرض من مجازر يعبر من دون أيّ أثر، وكأنه بات مألوفاً، وعادياً، وطبيعياً؟
لا تسهل الإجابة على هذا السؤال، لكن يمكن أن نرسم مساراً للبحث انطلاقاً من خصوصية جائحة كورونا، وما أنتجته من جديد في شتى ميادين العيش والاقتصاد والفكر والسياسة، والذي من المتوقع أن يطبع عالمنا في الفترة المقبلة.
يحمي الناس بعضهم البعض في ظلّ الجائحة بممارسة نوع من القسوة اللازمة، ويتحوّل الجسد الذي كان مسرحاً للعناق والحميمية إلى بؤرة للمرض والموت، ويصبح الآخر بمثابة تهديد
الاستجابة الثقافية والمعرفية للأحداث تحتاج إلى وقت، وغالباً ما تكون باردة، وقد تفرض الواقعية والضرورة في الكثير من الأوقات اعتماد إجراءات قاسية وصارمة. وفي هذه اللحظة تتحوّل القسوة إلى نظام عام وإلى شكل للعيش تشرعنه الضرورات، وتشرف على إنفاذه السلطات.
لكن ما يكون ضرورياً ينطوي على أخطار كبيرة تهدّد بنسف فكرة التعاطف. مع جائحة الكورونا، يكون المرء متعاطفاً، ومحبّاً للآخرين، وحريصاً عليهم طالما قرّر الابتعاد والدخول في العزلة وقطع التواصل معهم.
يحمي الناس بعضهم البعض في ظلّ الجائحة بممارسة نوع من القسوة اللازمة، ويتحوّل الجسد الذي كان مسرحاً للعناق والحميمية إلى بؤرة للمرض والموت، ويصبح الآخر بمثابة تهديد.
أسّس من دون أن يدري لاستراتيجية مكافحة موت العلاقات الإنسانية التي يبشّرنا بها عالم الكورونا وما بعده
من هنا، قد تكون فعلة جهاد السويطي، بما فيها من إصرار على معاينة والدته المحتضرة، ولو من وراء الشباك من مسافة آمنة، احتجاجاً جدّياً ضدّ كلّ هذه القسوة التي يفرضها النظام والمرض، ومعركة تهدف إلى منح الوالدة المريضة صفةً واسماً ينقذانها من عمومية تسمية “حالة”، ويعيدانها إلى أصلها كـ”والدة” تمتلك تاريخاً وسيرة.
لعلّ ما استثار كلّ هذا التعاطف يكمن في هذا البعد، إذ إنّ جمهور الناس المتعاطفين شعروا أنهم يستطيعون إنقاذ أحبتهم من النسيان والتبدّد ومن تذويبهم في كلّ هذه القسوة الفائضة التي يفرضها التعامل مع جائحة كونية مثل الكورونا. خصوصاً بعد أن شاعت على امتداد العالم صور جنازات حيث يمتنع أقرب المقرّبين من حضور الدفن أو الاقتراب من جثة الميت، بشكل تبدو صلات القربى العائلية، تعرّضت للتدمير.
لا يستطيع الأهل أن يكونوا أهلاً ولا الأبناء يستطيعون أن يكونوا أبناء إزاء الكورونا. لكنّ جهاد السويطي أصرّ حتى اللحظة الأخيرة من حياة والدته على رفض هذه الحدود الجائرة، فكان الابن ورأينا تلك العلاقة في تلك الصورة. وقد قاتل جهاد حتّى لا تنزع الجائحة عن والدته صفتها تلك. وبذلك، فإنه أسّس من دون أن يدري لاستراتيجية مكافحة موت العلاقات الإنسانية التي يبشّرنا بها عالم الكورونا وما بعده.
لحظة الانتظار على شباك المستشفى قدّمت للعالم رمزية مضادة لرمزية إدارة الظهر والابتعاد. ونجحت في أن تمنح كلّ من تلقّاها نوعاً من القدرة على القيام بمثل هذه المعجزة الصغيرة والعادية، والتي تتلخّص في فكرة بسيطة مفادها أنّه يجب علينا ألا نسمح للجائحة والضرورات الوقائية ولا للسلطات أن تسلبنا علاقتنا مع أحبائنا، وتختصرهم في مرض أو حالة.
لم يكن هذا الانتظار ينطوي على الكثير من الأمل بشفاء الوالدة. عمرها الكبير وإصابتها ببعض الأمراض جعل من رحيلها أمراً شبه حتمي، فما الذي كان جهاد ينتظره؟ هل كان يبحث عن معجزة، ونحن في عالم تصفه كلمات أغنية وردة الجزائرية بأنّه: في “ما فهش معجزات”؟
لا نبالغ حين نقول إنّ عالم ما بعد الكورونا، هو عالم يحارب للقضاء على كلّ التصوّرات والتمثّلات المرتبطة بالأم. فهو عالم يقول للجميع بوضوح إنّه لا شيء مجانياً
ما كان يبحث عنه هو الحب. ولعلّ الحب هو الطاقة الوحيدة التي تتضاعف بالوهب. الوالدة الراقدة في سرير المرض كانت لا تزال قادرة على منحه الحبّ، وهو كان يسعى كذلك إلى إنقاذ نفسه من ثقل غيابها بوهبها كلّ ما لديه من حب.
ليست هذه الفكرة محاولة لشعرنة المشهد بل لفهمه، والتأكيد على أنّ صورة الأم هي الصورة التي لا تزال قادرة على اختراق منظومة السادية التي تسيطر على عالم اليوم، لأنّها طاقة لا تتوقّف عن إنتاج نفسها وبثّ قيمها.
لا نبالغ حين نقول إنّ عالم ما بعد الكورونا، هو عالم يحارب للقضاء على كلّ التصوّرات والتمثّلات المرتبطة بالأم. فهو عالم يقول للجميع بوضوح إنّه لا شيء مجانياً، وإنّ المصلحة البحتة هي ما يجب أن يتحكّم في سلوكنا وفي عواطفنا.
اشتهرت منذ فترة تجربة قام بها مجموعة باحثين بهدف التأكيد على الدور الاستثنائي للأم. فنشروا إعلاناً عن وظيفة وأغفلوا ذكر الشروط. وحين يتقدّم أيّ شخص لطلب الوظيفة يتمّ إعلامه بأنّها وظيفة بدوام كامل وعلى مدار الساعة، وبلا أيّ أيام عُطلة على الإطلاق وتتطلّب تحمّل الضغوط 24 ساعة، وبلا راتب. غالباً ما كان طالب الوظيفة يغضب ويقول إنّ هذه الشروط مستحيلة. عندها يتمّ إعلامه بأنّ هناك شخصاً يقوم بهذه الوظيفة بالفعل، وأنّه يعرفه بالتأكيد. يتفاجأ المتقدّم ويسأل من يكون؟ يجيبه الباحث: إنها أمّك!
ببساطة، يمكن تلخيص الأثر الذي تركته فينا صورة جهاد المنتظر على شباك المستشفى في أنه أكّد لنا أنه يمكننا النجاة من كلّ هذا الهول الذي يحيط بنا بوسيلة نمتلكها جميعاً، ونحتاج فقط إلى تفعيلها، ألا وهي الحبّ الأمومي الذي لا تقتله الجوائح ولا النكبات.