العدالة للبنان (8): السلاح على الطاولة أو وداعاً لبنان

مدة القراءة 5 د


لم تكن مطالبة المعارضة، بعد نحو ستّ ساعات على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بالتحقيق الدولي في الجريمة، تدويلاً للأزمة الناشئة عنها لمجرّد التدويل، بل إنّ التحقيق الدولي كان الوسيلة الوحيدة للتصدّي لاستراتيجية العنف المتّبعة من قبل نظام الوصاية القائم على مجابهة الضغط الدولي الذي كان قد بدأ يُمارس عليه. وما كانت جريمة 14 شباط التي “بلغت مستوى لم يرقَ إليه أيّ اعتداء آخر منذ انتهاء الحرب”، سوى الحلقة الرئيسية في هذه الاستراتيجية.

الأهمّ أنّ التحقيق المذكور كانت غايته الفورية منع تحوّل أزمة ما بعد الجريمة إلى حرب أهلية، خصوصاً بعد أن بشّرت فظائع حرب العراق بأخذ الفتنة السنيّة الشيعية مسالك ما عرفها تاريخ العرب والمسلمين من قبل. ولا ننسى أنّ لبنان كان واقعاً وقت الجريمة تحت حكم “منحاز”، وبالتالي فإن الوثوق بالأجهزة الأمنية والقضائية كان مستحيلاً، والأهمّ أنّ الاحتكام إليها ما كان ليمتصّ غضب الشارع ويمنع اتجاهه نحو العنف الأهلي.

إقرأ أيضاً: 7 آب، العدالة للبنان (5): الشيعة لم يقتلوا رفيق الحريري

في 7 آب الجاري، أيّ بعد 15 عاماً على وقوع هذه الجريمة، تصدر المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها فيها، وهو ما يطرح مسألتين أساسيتين: الأولى متّصلة بالمعاني السياسيّة والوطنية للنطق بالحكم والثانية بكيفية التعامل السياسي الداخلي معه.

بالطبع يشكّل صدور الحكم المذكور انتصاراً سياسيّاً وقيمياً كبيراً لا لعائلة أو طرف سياسي بل للبنانين وحتّى لشعوب للمنطقة. فكشف الحقيقة في جريمة سياسية بهذا الحجم وفي منطقة حيث شكّلت الجريمة السياسية أبرز أدوات الأنظمة والأحزاب الراديكالية لقمع المعارضة والسيطرة على الحيّز العام، يعدّ بمثابة مفصل تاريخي يمكن لتلك الشعوب الركون إليه والتأسيس عليه لتحقيق العدالة في المظالم السياسية التي تعرّضت لها، خصوصاً أنّه لا إمكانية للتغيير السياسي في البلدان التي شهدت مظالم مماثلة خارج تلك العدالة.

كيف سيتصرف “حزب الله” إزاء النطق بالحكم المذكور؟ إذ لا يُتوقّع بالمطلق أن يبادر إلى تسليم عناصره المتّهمين (من بقي منهم حيّاً) إلى العدالة بعدما رفض الاعتراف بالمحكمة الخاصة بلبنان

ولذلك فإنّ واحداً من الأسئلة الكثيرة التي يطرحها استحقاق 7 آب، هو كيف ستتعامل مجموعات “17 تشرين” مع النطق بالحكم؟ هل ستنظر إليه بوصفه محطة تأسيسية في مسار إعادة بناء المجال السياسي في البلد وفق قيم جديدة، أم أنّها ستعتبره خارج اختصاصها وهي المهتمة أساساً بقضايا مكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة؟! 

لكنّ السؤال الأهّم هو: كيف سيتصرف “حزب الله” إزاء النطق بالحكم المذكور؟ إذ لا يُتوقّع بالمطلق أن يبادر إلى تسليم عناصره المتّهمين (من بقي منهم حيّاً) إلى العدالة بعدما رفض الاعتراف بالمحكمة الخاصة بلبنان. من دون أن يتمكّن من ضرب صدقيتها بالرغم من كل محاولاته. وبالتالي فإنّ رفض الحزب للمحكمة لا يعني أنّ حكمها باطلٌ وأنّ اللبنانيين لن يقبلوه. ولذلك فهو، بتعامله المستمرّ معها (المحكمة) بوصفها محكمة مسيّسة لا تبغي تحقيق العدالة في جريمة إغتيال الحريري، يبقى من الناحية السياسية والأخلاقية أسير هذه الجريمة. وهو ما سيرتّب تبعات على مجمل حركته السياسية مستقبلاً، لاسيّما أنّ مفاعيل قرار المحكمة الدولية لن تقتصر على الداخل اللبناني، وإنما ستشمل كيفية تعاطي “المجتمع الدولي” مع الحزب، سواء في ظلّ الضغوط الأميركية التي يواجهها أو بمعزل عنها، وسواء من جانب الدول التي تصنّفه إرهابياً أو تلك التي تبقي احتمالات التواصل معه مفتوحة مثل فرنسا.

لكن وبمعزل عن البعد الدولي للقضية، فإنّ النطق بالحكم يطرح المعادلة الداخلية الآتية: إذا كانت المطالبة بالتحقيق الدولي في شباط 2005 قد حالت دون سلوك الأزمة الناشئة عن اغتيال الحريري مسالك الاقتتال الأهلي بالرغم من استمرار الإغتيالات السياسيّة، فإنّ مسارات مرحلة ما بعد 7 آب ستحدّدها كيفية تعامل “حزب الله” مع الحكم في هذه الجريمة. فإذا كان الحزب يرفض فعلاً الحرب الأهلية – على ما قال أمينه العام في ذكرى حرب تموز 2020 – فلا يسعه بعد صدور الحكم سوى التنازل والقبول بأن يكون سلاحه بنداً وحيداً على طاولة حوار وطني (يتفّق لاحقاً على مكانها وطبيعتها وإدارتها) هدفها الاتفاق على آليات وضع هذا السلاح تحت إمرة الدولة اللبنانية.

لا يمكن أن يكون المطلوب مقايضة العدالة بالسلاح فهذا بحدّ ذاته نفي للعدالة. لكنّ النطق بالحكم في جريمة سياسية كجريمة اغتيال الحريري لا بدّ أن يرتّب نتائج سياسيّة

هذا لا يعني أنّ عدم سلوك الحزب هذه الطريق سيؤدي بين عشية وضحاها إلى تجدّد الحرب الأهلية، إلّا أنّ احتمالاتها ستكون دائماً حاضرة وكذلك مفاعيلها لناحية تجذّر التشقّق الأهلي وتوسّعه. كما أنّه يصعب الاعتقاد أنّ مفاهيم مثل “العيش المشترك” و”وحدة لبنان” و”نهائية كيانه” سيكون لها المعاني نفسها بعد 7 آب في حال تمسّك “حزب الله” بمكابرته على مفاعيل الحكم في جريمة 14 شباط.

من حيث المبدأ لا يمكن أن يكون المطلوب مقايضة العدالة بالسلاح فهذا بحدّ ذاته نفي للعدالة. لكنّ النطق بالحكم في جريمة سياسية كجريمة اغتيال الحريري لا بدّ أن يرتّب نتائج سياسيّة. فإمّا أن يدفع باتجاه إعادة تأسيس الحياة السياسية والوطنية بمعزل عن سطوة “سلاح 7 أيار”. وإمّا أن يكون لبنان أمام مفترق خطير ونهائي نحو تعميق الانشطار الأهلي فيه ما سيرهنه مجدداً لاحتمالات العنف والتفكّك.. فلبنان ما بعد 7 آب هو غير ما قبله حكماً!

مواضيع ذات صلة

قنوات مفتوحة بين قائد الجيش و”الثّنائيّ الشّيعيّ”

في آخر موقف رسمي من الانتهاكات الإسرائيلية اليومية والفاضحة لقرار وقف إطلاق النار تكرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي “لفت نظر” لجنة المراقبة لوجوب وقف هذه…

“اللقاء الديموقراطي” يدعم التوافق على جوزف عون

أقلّ من 25 يوماً تفصل عن موعد الاستحقاق الرئاسي. حراكٌ في مختلف الاتّجاهات، وتشاورٌ على كلّ المستويات. الشغل جدّي لإجراء الانتخابات يوم التاسع من كانون…

سفراء الخماسيّة “أسرى” جلسة الرّئاسة!

لا صوت يعلو فوق صوت “مطحنة” الأسماء المرشّحة لرئاسة الجمهورية. صحيح أنّ الرئيس نبيه برّي يتمسّك بتاريخ 9 كانون الثاني بوصفه المعبر الإلزامي نحو قصر…

سليمان فرنجيّة: شريك في رئاسة “قويّة”

من يعرفه من أهل السياسة أو من أهل الوسط يصفونه بفروسيّته ربطاً بأنّه يثبت على مبدئه مهما طال الزمن ومهما تقلّبت الظروف. سليمان فرنجية الحفيد…