سيغيب السنّة ذاك المشهد البهيّ حيث الناس تطوف حول البيت الحرام رافعة النداء “لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك”. فإجراءات الوقاية من كورونا منعت الحجيج عن الكعبة وجبل عرفات ورمي الجمرات. إذ أنّ حياة الإنسان تتقدّم على كلّ المناسك والفرائض، بنصّ الآيات القرآنية، وهو ما صدّقته الأحاديث النبوية واجتهادات الفقهاء.
هذه ليست المرة الأولى التي يتعرّض موسم الحج لأخطار الوباء. فقد ذكر ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية” أنّ وباءً تفشّى في مكة سنة 357 هجرية/968م، عُرف باسم “الماشري”، تسبّب بموت كثير من الناس، وتسبب في نفوق جِمال الحجيج أيضا جرّاء العطش، وأنّ معظم من تمكّنوا من الوصول إلى مكة حجيجاً، ماتوا بعد أدائهم الحجّ.
إقرأ أيضاً: متى عيد نهاية “كورونا”؟
وفى عام 1230هـ/1814م، مات نحو 8000 شخص في الحجاز بسبب الطاعون، ضمن أوّل موجة من وباء الكوليرا في القرن التاسع عشر الميلادي في الفترة بين عامي (1817-1824م) وعرف باسم “كوليرا آسيوية”. واندلع من مدينة كلكتا الهندية لينتشر في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا إلى الشرق الأوسط وشرق أفريقيا وساحل البحر المتوسط. وفي تلك الفترة مات آلاف من الحجاج بالوباء، الذي انتقلت عدواه من بؤرته الأساسية في شرق وجنوب آسيا، إلى طرق الحج ومكة.
وفي عام 1864م، كان يموت 1000 من الحجاج يومياً نظراً لتفشّي وباء شديد الخطورة، ضمن ما سُمي “وباء الكوليرا الرابع” بالقرن التاسع عشر. وفي 1871م، ضرب المدينة المنوّرة وباء اضطرّ مصر إلى إرسال أطباء وبناء حجر صحي بمكة المكرمة في الطريق المؤدّي من مكّة إلى المدينة.
وشهد عام 1892م تفشّي وباء الكوليرا مع موسم الحجّ وكان شديداً، فتراكمت جثث الموتى ولم يتسنّ الوقت لدفنهم، وتزايدت الوفيات في عرفات، وبلغت ذروتها في منى. وبعدها بثلاث سنوات، أي في عام 1895 تفشّى وباء يشبه “حمى التيفوئيد” أو “الزحار”، انطلاقًا من قافلة جاءت من المدينة المنوّرة. واستمر انتشاره بدرجة ضعيفة عند عرفات، ولم ينتشر فيما بعد.
في عام 1864م، كان يموت 1000 من الحجاج يومياً نظراً لتفشّي وباء شديد الخطورة، ضمن ما سُمي “وباء الكوليرا الرابع” بالقرن التاسع عشر
كذلك انتشرت جائحة الطاعون الثالث عام 1894 في هونغ كونغ، ووصل إلى الأراضي الإسلامية في غضون سنوات قليلة، واستمرّ بضعة عقود. وانتهى في منى. وفي عام 1987م، تفشّى “التهاب السحايا”، ووصل عدد المصابين إلى عشرة آلاف.
وكان وباء “إنفلونزا الخنازير” (H1N1) الذي انتشر عام 2009م قد جعل مجلس وزراء الصحة العرب يصدر قراراً بمنع المسنّين والمرضى والأطفال من أداء فريضة الحج، خوفاً من نشر الوباء.
في حين سبّب مرض ميرس “متلازمة الشرق الأوسط التنفسي”، وهو أحد سلالات فيروس كورونا عام 2013م، منعاً للمسنّين والمصابين بالأمراض المزمنة أيضاً من الذهاب إلى الحج.
“لم نحسب يوماً أن نسمع أن لا بعثات حج لهذا العام. لم نحسب يوماً أننا لن نكون مع حجاج بيت الله الحرام يوم “عرفة”، بهذه الكلمات يروي المُعَرّف الحاج زياد سعيد نافع لـ”أساس” ذكرياته ويقول: “لا أستطيع وصف هذا الشعور الذي ينتابني. إلغاء الحج كارثة بالنسبة لي. وأنا لا استطيع في يوم عرفة أن أشاهد الحجاح على التلفاز” (يصمت برهة وتدمع عيناه) ليتابع: “أيام الحج مهمّة لنا، فهي بمثابة مؤتمر إسلامي كبير على صعيد العالم. فالله يتباهى بالحجاج أمام الملائكة. خسرنا كثيراً هذا العام، لكن قد يكون هذا خيراً لنا”.
لم نحسب يوماً أننا لن نكون مع حجاج بيت الله الحرام يوم “عرفة”
ويضيف: “علينا الالتزام بما أمره الله سبحانه وتعالى. ففي كلّ عام اعتدت أن أوزّع الاضاحي على الفقراء. ولكن هذه السنة مختلفة بسبب ارتفاع سعر الأضحية. فالخروف اليوم يتراوح سعره ما بين 1600.000 و1.700.000 ل.ل. حسب وزنه. أما اليوم، فقد حُرمت من تقديم الأضحية للفقراء، ولكنني لجأت إلى طريقة جديدة هي توزيع مبلغ من المال على العائلات المتعفّفة بحسب قدرتي المادية”.
أما زوجته الحاجة حزام عز الدين نافع، وهي مُعَرّفة لحملات الحجاج أيضاً، تذكّرت الحج وما فيه من مواقف لا تنسى ولحظات ساحرة وفريدة “حُرمنا منها هذا العام”. تروي لـ”أساس”: “الحج فيه مشقّة ممتعة. كنتُ وأخوات لي في الحملة، نتعاون ونقوم ببعض الأعمال سوياً، ونصلّي جماعة في جو إيماني رائع. أما عن يوم عرفة، فالإنسان يستطيع أن يستشعر مدى الراحة والطمأنينة عندما يعلم أنّ الله سبحانه يباهي به ملائكته ويكرّمه بالمغفرة ويرجعه كما ولدته أمه. هناك أشعر أنّني وُلدت من جديد، وأنّ ذنوبي غسلت جميعاً”.
ومن ضمن المواقف الإيمانية التي تتذكّرها الحاجة حزام، أنّ الحجاج، وهم بالملايين وعلى اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولهجات بلدانهم، يتّحدون عند نداء التلبية، ويتوحّدون جميعاً بصوت واحد: “لبيك اللهم لبيك،لبيك لا شريك لك لبيك”. وعندما يقرأون القرآن الكريم، تجمعهم اللغة العربية الفصحى. والأهمّ أنّ الحجاج سواسية من فقراء وأغنياء، في اللباس والدعاء والمناسك.