ماذا تفعل حين تنهار العملة الوطنية ويتراجع اقتصادك القائم على الصادرات بفعل انهيار العلاقات مع محيطك، وتتحول دولتك الباهرة في يوم من الأيام إلى دولة تعيش على نفقة دولة صغيرة هي قطر وتخسر، كزعيم، قدرتك على إلهام الأجيال الصاعدة من أبناء شعبك الذي نصفه ما دون سن الثانية والثلاثين، وتنشق عنك نخبة حزبك لتشكيل حزب جديد مضاد لحزبك يزعم أنه هو المستقبل لا أنت، وتتحول من الديمقراطية الإسلامية الصاعدة في الشرق الأوسط إلى دولة بوليسية تطارد أنفاس الناس على مواقع التواصل الاجتماعي بحجة أن هذه المنصات لا تلائم دولتك وشعبك؟
إقرأ أيضاً: قبل السحسوح… وبعده
ماذا تفعل حين تؤول رئاسة بلدية إسطنبول، عرينك التاريخي ومسقط رأسك البيولوجي والسياسي، إلى واحد من خصومك القادرين على تقديم خطاب بديل لأهل المدينة، أو حين تخسر غالبيتك البرلمانية بعد نحو عقدين في الحكم وتلجأ سياسياً إلى التحالف مع فصيل قومي صغير يعينك على تشكيل الحكومة؟
ماذا تفعل؟
تهرب أبعد إلى التاريخ وتتلطى أكثر خلف خطاب الهوية. تنتقل بشكل افتراضي إلى القرن الخامس عشر وتعلن متحف «آيا صوفيا»، الكنيسة سابقاً، مسجداً وتتلبس بشكل كاريكاتوري شخصية السلطان محمد الفاتح، متوجهاً لقاعدة حزبية تزداد ريفية وراديكالية وفقراً، من موقعك كإمام لأول صلاة في الكنيسة – المسجد – المتحف منذ 86 عاماً!
العثمنة تجربة لا يحيط بها تعريف واحد يختصر مراحلها الممتدة من الكولونيالية الإسلامية إلى السلطانية الكوزموبوليتانية التي ميّزت تجربة السلاطين المتغربين
تفعل ذلك في الذكرى الـ97 لاتفاقية لوزان 1923، التي عدّها مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك انتصاراً غير مسبوق لتركيا لأنها منحت الدولة استقلالها، وثبّتت حدودها، وصالحتها مع فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وفتحت الباب أمام الثقافة الأتاتوركية للدولة لتضمن لها عبر حزمة معايير ومبادئ، الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين وما بعد!
ماذا تفعل؟
تفاقم رهانك الغاضب والمحبط على مشروع الإسلام السياسي الذي سقط في مصر والسودان وينزف في تونس ويتخثر في ليبيا متحولاً من السياسة إلى فضاء العصابات المسلحة تحت غطاء اعتراف الأمم المتحدة، بحكومة فائز السراج، التي صارت مجرد وجه لمرتزقة يؤتى بهم من هوامش الحرب السورية وغيرها…
لكن ماذا يريد إردوغان؟ الإجابات السهلة عن هذا السؤال هي إجابات خاطئة بالضرورة. واستعمال عناوين براقة لاختصار المدرسة الإردوغانية في السياسة، لا سيما الخارجية، غالباً ما تسقط في فخ إخراج بعض المصطلحات عن مضامينها التاريخية كمصطلح «النيو – عثمانية». فالعثمنة تجربة لا يحيط بها تعريف واحد يختصر مراحلها الممتدة من الكولونيالية الإسلامية إلى السلطانية الكوزموبوليتانية التي ميّزت تجربة السلاطين المتغربين، وما نتج عن تغربهم من إقرار بموجبات التعدد والتسامح وحسن العلاقة بالأقليات.
في المحصلة النهائية، لا شك في أن إردوغان يبحث عن مكان لبلاده في المنطقة والعالم، بصفة بلاده الأولى وربما الوحيدة. أي أن تنوب تركيا بنفسها عن نفسها وليس عبر هيكلية عسكرية كالناتو، أو هيكلية سياسية كالاتحاد الأوروبي الذي لم ولن تدخله تركيا في أي وقت قريب، ولا عبر هيكلية ثقافية كأن تكون عضواً في نادي الديمقراطيات في العالم.
أردوغان يبحث عن مكان لبلاده في المنطقة والعالم، بصفة بلاده الأولى وربما الوحيدة
يريد إردوغان (مع حليفه السابق وخصمه الحالي داود أوغلو) لتركيا أن تكون تركيا وحسب، بخليطها القومي والإسلامي، وأن تبني علاقاتها وفق هذا المنظور.
غير أنه وفي بحثه عن هذا المكان، يركب الرئيس التركي عربة معطوبة، هي بقايا حزب العدالة والتنمية، ويحركها بنسخة شعبوية ومحافظة من الإسلام السياسي، يغذيها بسردية الضحية وخطاب الخوف والتخويف. فقاعدته هم ضحايا العلمانية، وضحايا الفوقية الأوروبية، وضحايا التآمر الأميركي، وضحايا العداء العربي. لكنها ضحوية انتهازية لها وظيفة شبه حصرية في التعبئة السياسية للدفاع عن قاعدته المتداعية. ضحوية وسرعان ما تخون نفسها إذا ما نظرنا إلى موقف إردوغان المعترض بخجل، على القمع الصيني لأقلية الإيغور المسلمة وذات الجذور التركية. تماماً كما يستعمل إردوغان الملف الفلسطيني بأعلى درجات الانتهازية إما لتعزيز الشعور بالتفوق الأخلاقي عند قاعدته، على الرغم من العلاقات الإسرائيلية التركية، وإما لإحراج الأردن وضرب مشروعية الوصاية العربية الهاشمية على المقدسات الإسلامية في فلسطين.
أما خطواته وقراراته فتبدو نوبات متعاقبة لا يربطها تصور واضح أو استراتيجية يمكن التقاط ملامحها.
فإن أمكن فهم البعد الاستراتيجي في خيارات تدخله العسكري في سوريا والعراق، من زاوية هاجس الأمن القومي التركي الذي توليه أنقرة لملف الأكراد، فإنه من غير المفهوم كيف يريد إردوغان أن يبني موقعاً لبلاده في المنطقة من موقع الخصومة الحادة مع مصر والسعودية والإمارات والتحالف مع دولة عربية وحيدة هي قطر؟!
وكيف يمكن أن يضمن لتركيا دوراً في ملفات الإقليم الأوسع من العالم العربي في ظل عدم ثبات علاقاته بكل من إيران وروسيا، وهذه الأخيرة بالمناسبة أرثوذكسية استفزها تحويل الكنيسة الأرثوذكسية «آيا صوفيا» إلى مسجد! أو في ظل علاقة متهورة بأوروبا تهدد أمنها دوماً بفتح البوابات أمام طوفان الهجرة! أو في ظل قدرته المتخيَّلة على الجمع على أرض بلاده بين صواريخ «إس – 400» الروسية والمشاركة في صناعة فخر سلاح الجو الأميركي «إف – 35»؟!
أكثر فأكثر ينزلق إردوغان نحو المزيد من الفوضى غير الخلاقة التي يسمّيها استراتيجية ومشروعاً، مغادراً بعنجهية لا توصَف كل المقدمات التي أسست له سمعته وسيرته السياسية وعلى رأسها نجاحه في تحقيق ارتقاء اقتصادي حقيقي للأتراك وتأسيس قوة ناعمة لتركيا تعرّف العالم العربي على بعض جوانبها من خلال السياحة والمسلسلات المدبلجة…
صلّى مع إردوغان في مسجد «آيا صوفيا» نحو 350 ألف شخص… الأكيد أنهم صلّوا بجيوب أكثر جفافاً من الأمس وقلوب أكثر خشية من الغد…
*نقلاً عن الشرق الاوسط