سهت عنا المئوية. مئوية إنشاء دولة لبنان الكبير عام 1920. مع أنّ رئيس الجمهورية كان دشّن قبل نحو عام فعاليات التحضير لها، ثم استأنف بكلمات له السجال الذي لم ينطفئ جمره تحت الرماد والمتصل بالنظرة إلى المرحلة العثمانية التي راكمت فصولها وتجاربها ومنعطفاتها هذه البلاد، وهو سجال في نهاية التحليل لا مفرّ منه. إنما المشكلة في طغيان أنماط خوضه بعنجهية واختزالية وتحت الضغط والابتعاد العاطفيين. ظهر وقتها أنّ اللبنانيين منقسمون بشكل أو بآخر حول النظرة إلى العثمانيين، وحول النظرة إلى التوليد الفرنسي لدولة لبنان الكبير، ودفعت المكابرة على هذا الانقسام الحاد في الموقف من الماضي، إلى امتناع المكاشفة حول ما اذا كانت الانقسامات تزداد حدّة مع السنين، أو أنها تميل تدريجياً إلى الاعتبار من كثرة التجارب، والهدوء.
إقرأ أيضاً: مئوية لبنان الكبير… جوع “نوعي” لا “كمّي”.. والنتيجة هجرة وانتحار
أياً يكن من شيء، كانت هذه الأعوام المئة بركانية بامتياز، ولا تزال. إنما الذي حصل أنه ضاعت فعاليات المئوية بحكم كلّ ما طرأ علينا منذ أيلول الماضي. فمن السجال حول العثمانيين ثم مع وزارة الخارجية التركية، إلى تعقّب المواطنين القلقين على وضع الليرة، إلى اقتراح ضريبة الواتساب الذي أشعل نار الاحتجاج الشعبي، إلى الانتفاضة الجماهيرية الواسعة التي أسقطت حكومة “التسوية”، إلى معضلة تشكيل أخرى بديلة، الى إخراج سعد الحريري من معادلة تشكيلها بعد أن كان يمنّي النفس بحكومة تكنوقراطية ليس فيها من غير التكنوقراط إلا هو، إلى تشكيل حكومة تكنوقراط موالية لمحور الممانعة، إلى التصادم بين حركة المواطنين وبين المصارف الحابسة أموالهم، إلى ارتفاع حدة القمع والتعقب للناشطين، وفي الموازاة، الدخول في موسم الكورونا، والحجر، والتعبئة العامة، والانهيارات المتسارعة في وضع الليرة، والفصام النقدي المتمثّل بنظام الفريش ماني، والدولار اللبناني، والكتلة الورقية المتضخّمة لليرة، المتضائلة قيمتها إلى أبعد مدى، إلى أن عصفت الكورونا مجدّداً.
هذه المكابرة فرضت على انتفاضة تشرين خطابية “أنتي طائفية” اختزالية كاريكاتيرية. كما لو كانت الطائفية مؤامرة يفرضها بضعة زعماء على البلد
باختصار، عام فيه ما يشي بنهاية الأزمان بالنسبة إلى لبنان، ولم يكن بالمستطاع ضمنه التركيز فعلاً على إحياء المئوية الأولى لدولة لبنان الكبير، الذي لم تكن هناك على صعيد الرعاية الرسمية له جهوزية أو نية لإحيائه، بإتاحة السبيل للحوار الهادئ والتصريح حول تجربة القرن اللبناني “الكبير” هذا، ومآلها، وما إذا كانت محتاجة لإعادة تأسيس، أو إعادة إنعاش، أو التفكير بما يتجاوزها.
سهت عنا المئوية. مئوية إنشاء لبنان الكبير. أو أنه هكذا أحييناها. بدلاً من إحيائها في القاعات المقفلة، والندوات الرتيبة التي يستعجل الحاضرون إليها استراحة القهوة والبيتي فور بين الجلسات. كان إحياؤها صاخباً، في الشارع، بالتظاهر أو بالطابور أمام المصرف، أو عند الصيرفي. وكان إحياؤها في العزل المنزلي، ونوبات من الأدرينالين الثوري المتفائل فوق اللزوم، ومن الانكسار والإحباط والتداعي للمهاجرة ونعي البلد.
بقيت المشكلة في المكابرة. هذه المكابرة فرضت على انتفاضة تشرين خطابية “أنتي طائفية” اختزالية كاريكاتيرية. كما لو كانت الطائفية مؤامرة يفرضها بضعة زعماء على البلد. كما لو أنها لم تكن ديناميات من تحت ومن فوق ومن وسط في نفس الوقت. كما لو أنّ الاختلافات الفعلية بين الناس على أساس الانتماء الديني الاجتماعية وهمية كلها. كثرت وقتها الكتابات الساذجة عن كيف حطّم الشعب أغلال الطائفية، ثم انقلب نوع الكتابة نفسه إلى النعيق حول رجعة الطائفية. ومرة جديدة كما لو أنها مجرّد بدعة يوظّفها الزعماء حيث يريدون.
مئة عام من تاريخ بلد يمكن أن تُسرد من فوق. من صنّاع القرارات العسكرية والديبلوماسية، المفوّضين السامين، والحكّام، وزعماء الطوائف، وأمراء الحرب. ويمكن أن تُسرد من تحت، الناس وهم يبيعون في السوق ويشترون، ويتواصلون ويتحابون ويتكارهون، يشقَون ويلتهون، يموتون على الجبهات أو يسافرون. تاريخ اللبنانيين من تحت لطالما غاب عن سرديات التأريخ في لبنان. وهو نفسه المغيّب عندما تقصر الطائفية على أنّها من صناعة الزعماء فقط، أو عندما تجعلها جوهراً لا متبدّلاً، لا يبدّل حتى جلدته. مع هذا، كان هذا العام مميّزاً، بالانتفاضة وبالشقاء، وبكثرة استحضار ما علق من الذاكرة أو أُعيد تركيبه بالإحالة اليها، من كابوس “المجاعة”. ولم تكن تنقص البلد الكورونا حتى انتشرت أكثر فأكثر صورة محاكاة لما أصاب هذه البلاد من مجاعة، وبخاصة شمال متصرفية جبل لبنان، أثناء الحرب الكبرى.
وهناك اليوم أيضاً من ينتظر عودة الجنرال غورو، ليعيد تأسيس لبنان كبير ما. حتى إنّ هذا الانتظار غير المصرّح عنه وجد بشكل أو بآخر عند زيارة وزير الخارجية الفرنسي لودريان. صحيح أنّ الرجل قصر همّه على المدارس والجامعات الفرانكوفونية، ودعمها في هذا الظرف، والإرساليات منها فُتحت أساساً في نهايات العهد العثماني، ومن بعد إقصائها من فرنسا نفسها. وصحيح أيضاً أنّ الرجل قال بوضوح لمن اجتمع به من الرسميين ما لا يحبّون سماعه. فلا جنرال غورو في الأفق إذاً، ولا شيء من هذا القبيل، وأساساً هذه النظرة الانتظارية لغورو هي من صلب الاحتقان الذي تكابده ذاكرتنا الوطنية.
هناك اليوم أيضاً من ينتظر عودة الجنرال غورو، ليعيد تأسيس لبنان كبير ما
لا انتظار يرتجى، لا انتظار غورو “المجتمع الدولي” من أيّ نوع، ولا انتظار المجهول تماماً، على شاكلة مسرحية انتظار غودو لصموئيل بيكيت. المئوية مرّت علينا هذا العام دون أن تفسح بالمجال لنا لأيّ نقاش فعلي حول التركيبة اللبنانية، وما إذا كان يلزم مراجعة لها من الأسس، أو مجرّد تصحيح أوضاع ألمّت بهذه التركيبة. المئوية قصمت ظهرنا من دون أن تناقش. فرضت نفسها كسلسلة متسلسلة من المشاهد التفاؤلية المفرطة، ثم التشاؤمية المغالية. وأَوحت في تسلسل هذه المشاهد كما لو أنّ الكيان الذي أنشأه غورو كانت صلاحيته تقضي بمئة عام مأزقية وتصدّعية عدّاً ونقداً، ثم.. ثم لن يتوقّف الزمان طبعاً، وليس هناك خرائط جديدة جاهزة ستخرج من الأدراج لتعيد تشكيل وجه المنطقة، لكن الوضع في لبنان يطاول مع ذلك الأسس، أسس اللغة قبل كلّ شيء. الناس، من فوق ومن تحت، غدت لا تفهم على بعض. بلبلة لا حصر لها من الشعارات والمقولات، وهرج ومرج كثيرين، مرة حين ينسحب الكورونا بعض الشيء، ومرة إذ يُغير علينا من جديد. هناك في لبنان اليوم مشكلة بين الأغنياء والفقراء، وبين العام والخاص، وبين العام المخصّص والخاص الذي يتصرّف كأنه قطاع عام. وهناك مشكلات بين المسيحيين والمسلمين، وبين السنة والشيعة، وتارة بين المسيحيين والسنة بالدرجة الأولى، أو بينهم وبين الشيعة بالدرجة الأولى، وهناك نظرات تختلط فيها المصلحة بالعاطفة باللامصلحة، لإيران وتركيا والدول العربية والغرب. هناك كلّ هذا، وكلّ هذا جدير بأن ننظر إليه كفعاليات مئوية معاشة للبنان الكبير. مئوية انتهاء صلاحيته، ومئوية أن لا بديل عن البحث في كيفية إعادة ترتيب أوضاعه من جديد. أولاً بالكلام الصحيح، القادر على عدم اختزال المشكلات في واحدة، وعلى عدم إلغاء مشكلة بطمسها تحت وابل المشكلات. هي مئوية بالقدر نفسه الذي سهت فيه عنا، ثم تبيّن أنها فرضت نفسها علينا بكلّ هذه المشاهد المتعاقبة، إلا أنها كفيلة بالنهاية بتحرير الأسئلة، الأسئلة التي تتناول ما يقيم الرابطة فيما بيننا في هذا البلد، وما إذا كان بالمقدور ربطها بالمساواة بين الناس فيه، في الاجتماعي، في السياسي، في الأمني، في الثقافي، أو أننا مستمرون في تغنيج اللامساواة بأسماء عديدة، هذا يسعد باللامساواة الاجتماعية، ويسمّيها ليبرالية، وذاك باللامساواة في العنف والقوة، ويسمّيها ممانعة.