أكّدت مصادر في مصرف لبنان لـ”أساس” أنّ 10 مليارات دولار دخلت إلى السوق اللبناني من الخارج، خلال الأشهر الخمسة الماضية، على الرغم من الظروف الماليّة الصعبة على المستوى العالمي، وأنّ التقديرات تشير إلى خروج حوالي 8 مليارات دولار مقابلها لزوم اعتمادات تجارية وبطاقات اعتماد، ليكون الصافي المتبقّي بحدود الملياري دولار.
إقرأ أيضاً: هل يكون الـCurrency Board طوق نجاة الليرة؟
هذه القيمة الصافية من الدولارات ما زالت خارج النظام المالي بطبيعة الحال، بالنظر إلى الوضع الراهن في القطاع المصرفي، لكنّ التحدّي الأساسي بالنسبة إلى مصرف لبنان سيتعلّق بكيفيّة إعادة حركة الأموال هذه إلى النظام المصرفي بعد تطمينها. مع العلم أنّ هذه الأرقام لا تشمل حركة الدولارات الواردة عبر شركات تحويل الأموال، والتي كانت تبلغ عادةً حدود الـ 1.4 مليار دولار سنويّاً، بينما من المتوقّع أن تنخفض هذه القيمة إلى حدود النصف بعد أن قرّر مصرف لبنان الانتقال لتسليم قيمة التحويلات بالليرة، وبسعر أقلّ من سعر السوق، لاستخدام الدولارات لتمويل استيراد السلع الأساسيّة.
داخل أروقة المصرف المركزي، يدور النقاش عن كيفيّة التعامل مع الانهيار الحاصل في القطاع المصرفي، خصوصاً بعد أن انتقل ملف إعادة هيكلة القطاع من خطّة الحكومة والاستشاريين القائمين عليها، إلى عهدة مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وجمعيّة المصارف، من خلال لجنة إعادة هيكلة المصارف التي أصدر سلامة مذكّرة تقضي بتشكيلها منذ أيام.
التقديرات تشير إلى خروج حوالي 8 مليارات دولار
تؤكّد مصادر مصرف لبنان لـ”أساس” أنّ خارطة الطريق التي يعمل عليها المصرف تنقسم إلى مرحلتين: الأولى قصيرة المدى، سيحاول خلالها مصرف لبنان الحفاظ على استقرار المصارف التجاريّة وفقاً لوضعها الراهن، وإبعاد شبح الانهيار التام عن أيّ منها. أمّا على المدى الأطول، فالمطلوب استقطاب الأموال الطازجة لضخّ السيولة في النظام المصرفي، ووضع آليّات كفيلة بتطمين المودعين بأنّ الأموال الجديدة ستكون بمأمن فعلاً.
تصوّرات المصرف المركزي للحلّ ما تزال غير واضحة، وستحتاج إلى المزيد من البلورة لتصل إلى معالجة جوهر الأزمة الفعلي. فعمليّاً، تكمن الفجوة الأهم في ميزانيات القطاع المالي في التفاوت الكبير بين التزامات المصارف ومصرف لبنان بالعملة الصعبة والموجودات المتبقّية منها. وعمليّات الدمج ستسمح بتشكيل مصارف أكبر وأكثر متانةً على مستوى الرساميل، لكنّها لن تعالج فعلاً مسألة الفجوة هذه، بل ستخلق ميزانيّات أكبر بفجوات أكبر. وبالإضافة إلى ذلك، ثمّة إشكاليات أخرى تتعلّق بالخسائر التي ستنتج عن إعادة هيكلة سندات اليوروبوند، بالإضافة إلى تعثّر قروض القطاع الخاص، وهي خسائر لا بدّ من التعامل معها خلال الفترة المقبلة حتى لو تمّت عمليّات الدمج. مع العلم أنّ استقطاب الأموال الطازجة سيفيد المصارف من ناحية ضخّ السيولة الجديدة في شرايين القطاع، لكن هذه الأموال لن تكون حكماً بالحجم المطلوب لتغطية الفجوات التي تحتويها اليوم الميزانيّات.
استقطاب الأموال الطازجة سيفيد المصارف من ناحية ضخّ السيولة الجديدة في شرايين القطاع
بالتأكيد، ثمّة من يعمل على تصوّرات لهذه المسائل اليوم، سواء في المصارف التجاريّة أو في مصرف لبنان، خصوصاً أنّ إعادة عجلة النظام المالي إلى الدوران غير ممكنة دون التعاطي الجدّي مع هذه المشاكل تحديداً. لكنّ السؤال سيتعلّق تحديداً بطريقة توزيع هذه الخسائر، والفئات التي ستتحمّل كلفتها. ومن الطبيعي أن ترتبط هذه القضيّة بالذات بملف المعالجات على المستوى الأوسع، أي على مستوى خطّة الحكومة، بعد تعديلها بمشاركة مصرف لبنان، لكون هذا الموضوع يتعلّق بملفات أخرى لا تدخل ضمن نطاق عمل لجنة إعادة هيكلة المصارف، مثل ملف أصول الدولة التي سيجري تخصيص عوائدها لسداد الدين العام.
باختصار، بات بالإمكان تلمّس بعض توجّهات مصرف لبنان فيما يخصّ التعامل مع أزمة المصارف، بعد أن اكتفى خلال الفترة الماضية بالتعبير عن تحفّظه عن بعض جوانب خطة الحكومة كتقييمها للخسائر أو المعالجات التي ستذهب إليها للتعامل مع هذه الخسائر. لكنّ توقّع مسار إعادة الهيكلة الكامل، سيحتاج حكماً إلى إنتظار ما سيتوصّل إليه مصرف لبنان من تفاهمات مع الحكومة في ملفات عديدة، وهذا ما سيحدد أهم ما في هذا المسار: من سيدفع كلفة المعالجة.
عملياً، وإلى أن يتمّ إيجاد الآليّة اللازمة لدمج هذه التحويلات بالقطاع المالي، لا يخشى مصرف لبنان حدوث إفلاسات في القطاع. فالمصارف أساساً ممتنعة عن دفع الودائع بالعملة الأجنبيّة نقداً، بغطاء ضمني من المصرف المركزي والدولة، رغم عدم إقرار قانون الكابيتال كونترول حتّى الآن. أما سحب الودائع، المقوّمة بالعملة الأجنبيّة، بأوراق نقدية بالليرة اللبنانيّة، فيجري وفقاً لآليّة التعميم 151، التي يقوم بموجبها مصرف لبنان بتمويل عمليّات القطع. باختصار، لا يمكن تفليس مصرف ما طالما أنّ الطلب على الودائع متعذّر بحكم الأمر الواقع.
لا يخشى مصرف لبنان حدوث إفلاسات في القطاع. فالمصارف أساساً ممتنعة عن دفع الودائع بالعملة الأجنبيّة نقداً
في ما يتعلّق بعمليات الدمج والاستحواذ، ستجري هذه العمليّات في إطار التوافق بين المصارف أنفسها. بمعنى آخر، لن تفرض عمليّة إعادة الهيكلة أيّ إجراءات تقضي بدمج مصارف معيّنة بشكل قسري، أو بيع مصارف محدّدة لمصارف أخرى أو وضع اليد عليها. أما دور المصرف المركزي في هذه الحالة، فسيكون تحديد المعايير التي ستجري على أساسها عمليّات إعادة الهيكلة، بمعنى وضع الحدّ الأدنى المطلوب من الأموال الخاصّة المطلوبة في ملاءة المصرف.
في الواقع، هذه الاندفاعة في وضع الخطط والتصوّرات من جانب المصرف المركزي، لا يمكن فصلها عن التطوّرات التي جرت على المستوى الحكومي. فالحكومة كما بات واضحاً، انكفأت كليّاً في ما يتعلّق بمعالجات أزمة القطاع المالي. وبعدما أسقطت لجنة تقصّي الحقائق في المجلس النيابي مقارباتِ الخطّة الحكوميّة السابقة، بإجماع جميع الكتل النيابيّة، أدركت الحكومة عدم قدرتها على فرض هذه المقاربات على مصرف لبنان والمصارف.
ببساطة، بات موضوع إعادة الهيكلة اليوم في يد لجنة تشكّلت من ممثّلين عن مصرف لبنان والمصارف ولجنة الرقابة، فيما عادت الحكومة لإعادة النظر بخطّتها بالتشارك مع مصرف لبنان نفسه. وباختصار، أصبح لدى مصرف لبنان هامش أوسع من حريّة الحركة في الموضوع المصرفي، وهو ما يدفعه اليوم للانطلاق في التخطيط لمسار المعالجات المصرفيّة… وهي معالجات غير واضحة، وغير حاسمة، ولا تقدّم وعوداً جدية بأيّ حلّ نهائيّ.
باختصار عادت كرة “السياسة النقديّة” إلى ملعب رياض سلامة.