الجوع يطرق أبواب السجون اللبنانية، مهدّداً بتداعيات كبيرة. فما بين حانوت السجن (دكان للبقالة والخضار داخل السجن يُطلق عليه اسم الحانوت)، وتراجع الوجبات المقدّمة ونوعيتها، وإجراءات كورونا التي تمنع إدخال الطعام للسجناء من عوائلهم، بات السجناء أسرى الجوع.
سجن رومية هو المثال الأوضح حيث يصرخ السجناء عالياً: “أطعمونا جائعون”، ويروي الأهالي قصص الجوع الذي ينهش بأولادهم مع تقليص إدارة السجن لوجبات الطعام الخاصة بالسجناء إلى النصف ورفع الأسعار دون رقيب أو حسيب في حانوت رومية الذي يشتري الأهل منه ما يطلبه السجين.
إقرأ أيضاً: تصعيد سجون زحلة وراشيا والقبّة: مواجهة عفوَ عون الخاص؟
شهادات الأهل الذين سعوا إلى إيصال أصواتهم عبر “أساس”، تعود لتتكرّر على أكثر من لسان، إذ أكّدوا أنه يُمنع الأهل من إدخال الطعام الى السجناء: “حتّى لو كنتَ تحمل قارورة ماء لنفسكَ يجب أن ترميها قبل أن تدخل إلى مكان التفتيش”. وعادة ما تكون الطلبات مكتوبة على قصاصة ورق يعطيها السجين لأهله عندما يزورونه، ولكن طبعاً عن طريق الحرس: “نحن نعاني اليوم من ارتفاع الأسعار كما يعاني أولادنا في الداخل من افتقاد الكثير من البضائع”.
الآن في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يشهدها لبنان، لا يستطيع كثير من الناس سدّ رمقهم: “فكيف سنستطيع تأمين طلبات أولادنا بخاصة أنّ الحانوت أصبح يفتقد أكثر وأكثر إلى الأغراض الأساسية، عدا عن الغلاء المخيف بعدما أصبحت كميات الطعام قليلة جداً (على سبيل المثال كانوا يوزّعون قطعة من الدجاج المسلوق لكلّ سجين مرة في الأسبوع وأصبحوا الآن يوزّعونها مرة في الشهر)”.
المطلوب تطبيق أصول المحاكمات الجزائية لجهة كلّ الموقوفين بجرائم من نوع الجنح، وغير محكومين يجب أن يخرجوا فوراً
أحد السجناء القابعين في المبنى “ب” في رومية، يروي تفاصيل ما يعانيه السجناء في اتصال هاتفي مع “أساس” ويقول: “وضعنا سيء أكثر مما تتخيّلون. طالبنا بإقامة مطبخ في المبنى عندنا كي نطبخ نحن بأنفسنا، لأنّ الطعام قليل جداً، فلا لحمة ولا دجاج، بل يعتمد على الأرز فقط. وتأتي الوجبة صغيرة وتتقسّم على 4 اشخاص”، مؤكداً أنّه “من ليس لديه أحد فسيموت من الجوع”. أما عن الحانوت، فأسعاره مرتفعة جداً، فمثلاً الـ100 ألف ليرة لا تكفي لشراء شامبو وصابون ومياه، لأن المياه الموجودة كلسية جداً، وتسبّبت بأمراض. هناك سجناء أصبحوا يعانون من مشاكل صحية (الرمل والبحص)، ونحن مضطرون لشربها بسبب ارتفاع سعر المياه في الحانوت. أما وجبات الطعام، فمثلاً (طنجرة رز) لكلّ المبنى لا تكفي لـ200 شخص. نحن أكثر من 650 سجيناً. في السابق، كانوا يرسلون لنا في الأسبوع مرّة بيضاً مسلوقاً الذي توقّف أيضاً، كما توقّف الدجاج واللحم”.
من جهتها، المحامية والناشطة الحقوقية والمتابعة لشؤون السجون ديالا شحادة، ترى أنّ “الوضع مأساوي، وهناك تكتّم على الموضوع، وتهرّب من المسؤولية. فهناك أزمة كبيرة لأنّ الميزانية المخصّصة للسجون لم تعد تكفي”.
شحادة لا تستبعد أن يحلّ “الجوع” على السجناء. الجوع الحقيقي: “فهناك نقص في الحانوت. مثلاً خلال مرحلة الكورونا، لم يكن الشامبو والصابون متوافراً في مبنى الأحداث، وكانت الجمعيات تؤمّنها. الجيش عدّل في كميات اللحوم المقدّمة إلى الجنود، فكيف هو حال السجناء في ظلّ اكتظاظ السجون؟”.
وكشفت شحادة لـ”أساس” عن وجود حالة حجر داخل سجن رومية: “هناك تكتّم على عدد من المصابين. والمسؤولية اليوم على الحكومة، ووزارة العدل، ومجلس الأعلى للقضاء، ووزارة الداخلية التي من المفترض أن تتناقش مع مجلس القضاء الأعلى لإيجاد حلّ”. وتضيف: “المطلوب تطبيق أصول المحاكمات الجزائية لجهة كلّ الموقوفين بجرائم من نوع الجنح، وغير محكومين يجب أن يخرجوا فوراً. فهناك ما يقارب الـ10 آلاف سجين بين المحكوم والموقوف في سجون لبنان. وهذه السجون لا تزيد قدرتها الاستيعابية عن 3000 سجين، فماذا بالنسبة للظروف الإنسانية اليوم؟”.
لا يسمحون للأهالي بإدخال الطعام بحجّة الخوف من إدخال المخدرات. والحانوت أسعاره مرتفعة جداً
أما فيما يتعلّق بالعفو العام، فتعتبر أنّ “الفرصة التي سنحت خلال أزمة كورونا، انتهت بعدما اختلف الفرقاء السياسيون عليه، لأنهم كانوا يريدون عفواً رئاسياً خاصاً، وكان سيشمل ما يقارب الـ3000 سجين، وهذا سيفتح باب الفساد. ووفق القانون المتوفر ليس هناك قرار سياسي يعطي الضوء الأخضر. ومجلس القضاء الأعلى لا يتجرأ على اتخاذ قرار كهذا”.
“ما معكن تدفعوا عليه، القانون بيعطي الحقّ بإخلاء سبيله لظروف إنسانية” بهذه الكلمات ختمت شحادة كلامها مؤكدة أنّ الحلّ موجود، لكنّ المعنيين “لا يريدون تنفيذه. ولن يتحركوا إلا بعد وقوع المصيبة، وحصول وفيات بالسجون مثلما جرت العادة بلبنان”.
مقرّر لجنة السجون في نقابة المحامين في طرابلس المحامي محمد صبلوح يؤكد لـ”أساس” أنّ “الجوع يضرب السجن، والسجناء أضربوا عن الطعام مرات عديدة. وكانت تنهال عليهم الوعود لتحسين أوضاعهم، ولكن لم يتحقّق أيّ شيء منها”. ويكشف أنّه وجّه “نداءً إلى وزارة الداخلية أكثر من مرة عن مشكلة الطعام داخل السجن، الذي بدأ يقلّ تدريجياً منذ حصول الضائقة المالية وأزمة الدولار التي يعاني منها لبنان. ولم تنكر وزارة الداخلية أنها غير قادرة على تأمين الطعام للسجن، ولا تملك الحلّ، فإلى أين سيصل الحال؟”.
وأضاف: “لا يسمحون للأهالي بإدخال الطعام بحجّة الخوف من إدخال المخدرات. والحانوت أسعاره مرتفعة جداً. والأهالي يرفعون الصوت لأنّهم غير قادرين على إدخال الطعام وغير قادرين على الشراء من الحانوت. هناك إرباك كبير داخل السجن. فالسجين اليوم الذي كان أهله يؤمّنون له المال أصبحوا غير قادرين على ذلك. فما حال السجناء الذين لا أهل لهم. وأهالي السجناء يطالبون بالسماح لهم بإدخال الطعام الذين يُحضرونه معهم عند زيارة أبنائهم لأنهم غير قادرين على الشراء من حانوت السجن”.
ويشكو من أنّ “الحانوت يفترض أن تكون أسعاره منخفضة جداً، وبسعر التكلفة كما هو الحال في كافة سجون العالم”، لكنّه “يبيع بأسعار مرتفعة جداً، ويغيّر الأسعار بين ساعة وأخرى دون حسيب أو رقيب، إذ نشاهد سعرين مختلفين لسلعة واحدة فقط (الفواتير المرفقة تثبت صحة كلامي)”. ويسأل: “هل هناك فساد في الحانوت أم أنّه مطلوب منه أن يرفع الأسعار بهذا الشكل الهستيري؟”.
هل الجوع وعجز الدولة عن الرعاية الغذائية، سيدفعان باتجاه تحريك جدّي لقانون العفو، أو يذهب الجميع، دولةً وسجناء وعائلات سجناء، إلى مواجهة عبثية؟!”.
[PHOTO]