فرصة تاريخية أمام الحزب؟

مدة القراءة 8 د


مع تحديد السابع من آب موعداً لتنطق المحكمة الدولية الخاصة بالحكم في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فإن حزب الله تحديداً أمام استحقاق مفصلي في مسيرته السياسية، بما يمثّل في بيئته اللبنانية تحديداً، أو ما اصطلح عليه بـ”جمهور المقاومة” كتعبير غامض مقصود، كما بالنسبة للجمهور الأوسع.

إقرأ أيضاً: السفيرة الأميركية في مواجهة حزب الله: صراع على مستقبل لبنان

فعلى الرغم من مرور أكثر من 15 عاماً على حادثة الاغتيال الصادم، وجريان مياه غزيرة في مسار السياسات المحلية والدولية، وتعايش رمز الحريرية السياسية (الابن سعد الدين الحريري) مع حزب الله الذي يُحَاكم أفراد منه في القضية غيابياً، بل تقاربه معه وتنسيق السياسات أيضاً، لا سيما مذ عُقدت التسوية الرئاسية عام 2016، إلا أن الاغتيال بحدّ ذاته ثم الحكم القضائي الدولي، سيظلاّن يسمان العلاقة بين مكوّنين كبيرين، ويحدّدان المستقبل. هذا رغم أنّ الأحداث اللاحقة تجاوزتهما خطورةً وحساسيةً إلى مدى كبير. ولم تُحاكم بعد تلك المرحلة بما فيها من رقص على حافة الهاوية، على طول الخطّ الجغرافي الممتدّ من بغداد ودمشق وصولاً إلى بيروت، في حين أنّ سير الأحداث له وجهة مختلفة…

لا مصلحة لحزب الله بانهيار لبنان، لأنه الحاضنة بكلّ ما تعنيه الكلمة

من الانغماس في الصراع الطائفي العراقي بعد سقوط بغداد عام 2003، إلى احتدام الصراع في لبنان بين عامي 2004 و2008، فالارتداد إلى دمشق عام 2011 لحماية النظام الطائفي من السقوط، ثمّة جرح تاريخي في وعي أهل السنة في هذه المنطقة، وهذا ما يجب تداركه.

ليس هذا فحسب. نواجه في لبنان خطراً وجودياً بعد استنفاد أغراضه، واندثار مقوّماته، لا بسبب اغتيال رفيق الحريري، (وهو حلقة رئيسية) بل بسبب الفشل الاستراتيجي في إدارة الدولة. والمفارقة أن حزب الله يتحمّل أكبر قسط من المسؤولية، ولا يمكنه التملّص منها، لأنه بات يمتلك أخيراً معظم الأوراق السياسية في المؤسسات الرسمية. هذا اللبنان وصل إلى آخر الطريق. فإما يكون أو لا يكون. أما نطق المحكمة الدولية بحكمها في القضية، فسيكون كذرّ الملح على الجرح الملتهب، في توقيت ولا أسوأ!

طبعاً، لا مصلحة لحزب الله بانهيار لبنان، لأنه الحاضنة بكلّ ما تعنيه الكلمة. صحيح أن حزب الله بوجهه الأساسي، هو حركة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي، و”المقاومة” هي أنجح صُوَره على الإطلاق، إلا أن هذه المقاومة ليست وحدها ولا دائمة. معها شركاء موضوعيون، وشركاء بالضرورة. اللبنانيون كلهم شركاء هذه المقاومة، وكلهم دفعوا أثمانها، وأسهموا في انتصاراتها، بطريقة من الطرائق، حتى لو كانوا أحياناً غير واعين لذلك، أو حتى غير راضين بها كأداة تحرير.

لقد نفعت ازدواجية الدولة والمقاومة فيما قبل عام 2000، في تحرير الجنوب بأقل الخسائر الممكنة

فحرب العصابات في الجنوب، لم تكن تعتمد فقط على مال غير لبناني، لجهة التموين والتجهيز والتسليح. بل إن البنية الاقتصادية الليبرالية في لبنان، كانت تستوعب الضربات الإسرائيلية المرة تلو الأخرى، من خلال عامل الثقة الذي مثّله رفيق الحريري، بتدفقات متواصلة من أموال المغتربين واستثمارات اللبنانيين والعرب، وتقديمات دول خليجية، لا سيما المملكة العربية السعودية، وإيداعاتها في مصرف لبنان، والقروض الميسّرة. كان لبنان رفيق الحريري، إسفنجة تمتصّ الأموال، فيعتدل ميزان المدفوعات. يؤمّن المصرف المركزي رواتب موظفي الدولة ومستخدميها ومشاريعها بواسطة الدولارات التي يجتذبها من السوق، ومن المصارف بتعميماته الإلزامية، فيغطّي سيولة الليرة بالدولار الوافد. ولولا هذه الآلية المعقّدة، التي ازدهرت في أيام رياض سلامة، هل كان بمقدور لبنان الصمود وهو يخوض الحروب؟ إسرائيل نفسها لم تكن لتصمد طوال عقود لولا المساعدات الأميركية السخية سنوياً.  

لقد نفعت ازدواجية الدولة والمقاومة فيما قبل عام 2000، في تحرير الجنوب بأقل الخسائر الممكنة. وكان هناك لبنانان. لبنان الرسمي ممسكاً بالقرار الدولي رقم 425، وهو سند قانوني لا يستهان به. ولبنان المقاوم مستنزفاً العدو بعمليات متلاحقة، وفق حقّ مشروع معترف به دولياً. كان الالتفاف الشعبي والسياسي حول المقاومة في حركة تصاعدية حتى بلغ الذروة بقرار الانسحاب الإسرائيلي، حين أدرك إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الحين، أنّ مكاسب احتلال الشريط الحدودي في لبنان أقلّ من مضارّه. بل رأى أنّ الانسحاب أفضل وسيلة لتفجير المعادلة اللبنانية من داخلها. وفعلاً، تدحرجت كرة النار في الداخل منذ عام 2000، ولم تتوقف.

بذلك يمكننا القول، إن حزب الله انتصر أيضاً برفيق الحريري وحرّر الجنوب. حتى إنه انتصر أيضاً بفؤاد السنيورة

كان حزب الله يقاتل، ولبنان رفيق الحريري يعوّض الخسائر الفادحة بعلاقاته الدولية والعربية الواسعة. حتى انتصار تموز 2006، لم يكن ليتحقّق لولا أن قوى 14 آذار تملك الغالبية النيابية، وممثّلها في الحكم هو رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، أي كان الفاصل واضحاً بين المقاومة والدولة. بعد دراسة هذه الحرب الشرسة، استنتج الإسرائيليون بعد أبحاث معمّقة، أن الخطوط الحمر، المفروضة من دول كبرى، ذاك العام، ردعت إسرائيل عن استخدام كامل قدرتها التدميرية في كامل جغرافية لبنان. اقتصرت الحملة على مناطق بعينها، وبقيت بيروت مثلاً ملاذاً آمناً، وحتّى المنشآت الحيوية للدولة بقيت بمأمن نسبي. واعتباراً بذلك، فإن أيّ حرب مقبلة لن تستثني أيّ مرفق، وأيّ بقعة.

بذلك يمكننا القول، إن حزب الله انتصر أيضاً برفيق الحريري وحرّر الجنوب. حتى إنه انتصر أيضاً بفؤاد السنيورة عام 2006، حتّى لو اتهمه لاحقاً بشتّى الاتهامات، وحاصره في السراي لعام ونصف، لأنّه أراد تطبيق القرار الدولي رقم 1701، (الناتج عن حرب تموز)، ثم كافأ بيروت في 7 أيار المجيد بعد عامين!

لقد ثبت أنّ لبنان من دون رفيق الحريري عام 2005، وما يمثّله من عمق عربي ودولي، هو بلد بالغ الهشاشة

هذا المسار المتعرّج وصل الآن إلى نهايته. ولا بدّ من قرارات شجاعة. لم يعد ممكناً الاستمرار في المعادلة المعكوسة. كلاوفيتز المنظّر البروسي العسكري قال عبارته الشهيرة: “الحرب امتداد للسياسة بطريقة ما”. الأصل في الشأن العام داخلياً وخارجياً، هو السياسة، والحرب هي أداة من أدواتها. والسياسة فنّ الممكن لا المستحيل. ما نشهده منذ سنوات طويلة، هو أن السياسة أضحت أداة من أدوات الحرب وامتداداً لها، لا العكس. ثمّة تخلٍّ من حزب الله عن ممارسة السياسة بمعناها الحقيقي، حتى لو كان له نواب ووزراء. يترك السياسة لوكلاء عنه من طوائف مختلفة. وبات لديه أخيراً، مرشّح رئاسي يحاول الحصول منه على وكالة سياسية حصرية، مع كلّ الأضرار الجسيمة التي يتسبّب بها، ويكاد يودي بالبلد المريض. هؤلاء الوكلاء بالمعنى العام، ومعهم زبائن منتفعون، حلبوا البقرة حتى جفّ ضرعها، والآن هي تشرف على الموت. ثم إن الدمج المطلق بين “الدولة” و”المقاومة”، جعل لبنان عرضة لأسوأ الحروب وأشرسها من دون إطلاق رصاصة واحدة. حرب الدولار على بلد مدولر حتى النخاع. لا يوجد صاروخ قادر، مهما كانت قوته أو مداه، على صدّ هذا العدوان!

لقد ثبت أنّ لبنان من دون رفيق الحريري عام 2005، وما يمثّله من عمق عربي ودولي، هو بلد بالغ الهشاشة. وطوال 15 عاماً، لم ينجح أحد في الحلول مكانه، لا في بُعده الخارجي ولا حتى في السياسة المحلية. استمر لبنان إلى الآن، بفضل الزخم الأول قبل ثلاثين سنة، فلم يضيفوا إلى ما أنجزه، سوى سدود فارغة، ومعامل وبواخر صدئة، وأنهر مسرطنة، ومياه جوفية مستنزفة وملوّثة، ومؤسسات متهاوية ومفكّكة، وليرة مترنّحة سقطت أخيراً دون قعر، ودولة منهوبة ليس من السياسيين بحسب، بل حتى من كلّ متحيّن فرصة.

فهل يكفي التفاهم مع سعد الحريري؟ ابن رفيق الحريري بما يمثّله لم يعد كافياً. اتسع الخرق على الراتق. ولا بدّ من سلوك الطريق العريض. ولا بديل من التفاهم مع أهل السنة خاصة، كمكوّن أساسي لهذا الإطار الجامع، الحاضنة والملاذ، الذي هو لبنان.

لا مفرّ من العودة إلى لحظة التحرير عام 2000، لاستئناف حوار كان من المفترض أن يقوم بين المقاومة والدولة، في وقت مبكر، لوضع الاستراتيجية الدفاعية لمرحلة ما بعد التحرير. انعدام هذا الحوار أو منعه، مؤداه الطبيعي، هزّ الوفاق، وزعزعة البنيان. وفي هذا المجال لا بدّ من إيراد الملاحظات التالية:

– كان حزب الله-المقاومة في أقوى مراحله، ليس عسكرياً طبعاً، عندما كان ملتحفاً بقضية التحرير. فالخارج، كما الداخل، اعتبره ضمناً أو صراحة، حركة مقاومة وطنية مشروعة. لذلك اختارت إسرائيل سحب البساط من تحته بنزع ورقة المقاومة منه، أي الفخ الذي رسمه إيهود باراك، ونفّذه أرييل شارون.

– تدخل حزب الله في سوريا لم يكن مبرّراً في الداخل والخارج، إلا نسبياً في لحظة صعود تنظيم الدولة (داعش)، وثمة شكوك في الجهات التي سهّلت له الانبثاق بعد أن كان منعدماً عام 2010، قبل الربيع العربي. لكن مع انتهاء التنظيم، انقضت الأسباب، وانتهت مرحلة غضّ النظر دولياً.

– من غير المعقول، أن يحارب العالم الغربي حركة جهادية أممية سنية، (القاعدة ثم داعش)، بكلّ ما أوتي من قوة، كي تحلّ محلّها حركة جهادية أممية شيعية. هذا الأمر مفروغ منه، وأيّ محاولة للاستمرار في هذا المنحى، ستلقى الاستجابات التي بدأت من مدة، وما زلنا في قلبها (عقوبات، اغتيالات، غارات، وسوى ذلك).

 

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…