يروج في طرابلس عرض ومناقشة الأفلام في المراكز الثقافية، لا سيما “مركز العزم الثقافي” وسابقاً “مركز الصفدي الثقافي”، ما يوحي بأنّ “شاشة السينما لم تمرّ من هنا”. لكنّ للسينما في طرابلس عصراً ذهبياً قلّ قرينه، استمرّ من الخمسينات حتى منتصف السبعينات من القرن الماضي. وليس موعد “مهرجان طرابلس للأفلام” المستمر منذ عام 2016، سوى محاولة لإعادة نفض الرماد عن هذه الشاشة الفضية التي أوقدتها حماسة أهل طرابلس واهتمامهم طوال ربع قرن، نحاول فيما يلي العودة اليه.
عادات وطرائف
كان موعد حضور فيلم مدعاة لاستنفار الأسرة من أجل الاهتمام باللباس والتأنّق، حيث لا بدّ من المظهر اللائق أمام بقية الروّاد، وبخاصة عند الاحتشاد أمام شبّاك قطع التذاكر أو في فترة الاستراحة. وتتحوّل صالة السينما في أثناء الاستراحة الأولى إلى سوق متنقّل للباعة الذين ينادون على المرطبات والحلوى وأحيانا السندويش.
إقرأ أيضاً: بالعربية: صعود الحساسية الموسيقية لهاروكي موراكامي في “مقتل الكومنداتور”
ومن طرائف الإعلان عن الأفلام السينمائية، أن يعمد صاحب الصالة إلى استئجار ولدين يحملان لوحاً زُيّن بصور مختارة من الفيلم، يتقدّمهما متخصّص ذو صوت مرتفع أجشّ، فيرفع جرسه منادياً “اليوم فيلم جديد لـ عبحليم” أي عبد الحليم حافظ، في “سيلما” أي سينما “الأنجا”. وتطلّ السيدات من الشبابيك والشرفات يطلبن توجيه اللوح نحوهنّ ليشاهدن قدر الإمكان بعض صوره.
التدخين كان ممنوعاً ويعمل عناصر من شرطة البلدية على اقتحام السينما بشكل مفاجىء، لكن غالباً ما يتنبّه الجالسون في المقاعد الخلفية فيهتفون “عباية…عباية”. فيعمد المدخنون الى إطفاء سجائرهم، ومن لم ينتبه يُغرّم بمبلغ خمس ليرات، بموجب محضر ضبط، يعرّضه لتوسيخ اسمه في السجل العدلي.
امتداد واسع
من يطلع على مراكز انتشار دور السينما في طرابلس في أربعينات القرن الماضي وما قبل، سيفاجأ بأنها لم تتركّز فقط في منطقة التل، وهي آخر امتدادات المدينة القديمة، وإنما أيضاً توزّعت في العديد من المناطق الشعبية مثل ساحة النجمة وباب الرمل والسراي القديمة والتبانة.
وقد يبدو من الصعوبة أرشفة دور السينما حسب تواريخ بنائها، لكن يمكن التأكيد على أنّ معظم البنايات كانت تخصّص ما يسمى بـ”الملجأ” أو الطبقة الأولى لدار السينما، كما الحال في دور “الكابيتول” و”الريفولي” و”الحمراء” و”ريو” و”أمبير” و”أمير” و”الرومانس”. في حين أُسّست دور سينما خاصة مستقلة مثل “الأوبرا” و”كولورادو” و”رويال”، أي “ليدو” لاحقاً، فضلاً عن تجمّع لدور السينما مثل “شهرزاد” في الطبقة السفلى و”المتروبول” في الطبقة التي تعلوها. وكذلك الأمر مع سينما “أوديون” وفوقها سينما “بالاس”، والأمر نفسه مع سينما “الشرق” و”الكواكب” و”النجمة” التي أُسّست في منطقة شعبية وفي الطبقة الأرضية تحت شقق سكنية في حين كانت سينما “ديانا” في جوار سوق الخضار والمطلّة على نهر أبو علي داراً خاصة قائمة بذاتها.
التدخين كان ممنوعاً ويعمل عناصر من شرطة البلدية على اقتحام السينما بشكل مفاجىء
والأمر اللافت أنّ الحارة البرّانية الشعبية تأسّست فيها إحدى أقدم دور السينما في طرابلس، وكانت في الأصل خاناً جرى تحويله إلى سينما “القاهرة” التي اشتهرت بانخفاض أسعار الدخول إلى “فرنكين”، وأحياناً أقلّ من ذلك. ويقال إنّ البعض حضر فيها فيلماً مقابل “رغيف” فقط. وافتتحت في الستينات سينما صيفية في الهواء الطلق في مقهى التل العليا.
أما أفلام العيد فكانت فسحة للأولاد، حيث تغصّ ساحة التل بمئات الأطفال الذين يستعرضون الأفلام المفضّلة إليهم من بطولة تومكس أبو الفردين، وهرقل، وماشيستي، وزورو، ودراكولا وسانتو المقنع أو أبطال بعينهم مثل إيدي مورفي و لانكستر وغيرهما من أبطال الكاوبوي.
مواعيد الحفلات كانت معظمها عند الثالثة بعد الظهر والسادسة والتاسعة مساء، ونهار الأحد عند العاشرة صباحاً. وظلّت أسعار البطاقات حتى منتصف السبعينيات 60 قرشاً في الـ”صالون” وليرة وربع الليرة في الـ”بلكون”، للدور الممتازة، وربع ليرة لدور الدرجة الثانية و3 فرنكات للدور الشعبية.
يذكر الصحافي الطرابلسي صفوح المنجد في كتابه الشائق “طرابلس ذاكرة المكان والزمان” أنّ “المناظر” أي الدقائق العشر الأوائل قبيل عرض الفيلم تتضمّن “جريدة مصر” وهي فيلم دعائي قصير عن مصر وعبد الناصر واستقبالاته وزياراته. وكانت بعض دور السينما تعرض أفلاماً قصيرة عن “لوريل وهاردي” و”شارلي شابلن” و”توم وجيري” وغيرها من الرسوم المتحرّكة.
وكسبت السينما موقعاً استثنائياً في مقهى كان يدعى “العقادين”، وهو عرض أول فيلم سينمائي صامت كان يحكي عن التطوّرات العلمية، فشكّلت هذه المناسبة للطرابلسيين حدثاً عظيماً عرّفهم على “أعجوبة” الشاشة الكبيرة من خلال “آلة عرض سينمائية تمّ استقدامها، وكانت تعمل بواسطة الفحم الحجري كوقود لتوليد الطاقة” حسب المنجد.
السينما الأجنبية ونواديها
كانت الأفلام العربية شبه محتكرة في دور الريفولي وأحياناً الكابيتول والروكسي، ومعظم روّادها من الأحياء الشعبية يفدون لحضورها. وكثيراً ما يشارك أبطال الفيلم في حفل الافتتاح مثل عبد الحليم حافظ ومحرم فؤاد .
وقد اشتهرت كلّ دار سينما بنوع من الأفلام حسب الشركات المتعاقدة معها، ومعظمها أجنبية: “باراموتث”، و”متروغولدن ماير”، و”كولومبيا” و”وارنر بروس” وغيرها. قبل أن تقتحم السينما الفرنسية والإيطالية، وهي سينما “الأنتلجنسيا” التي تعتمدها أندية السينما للمناقشة من قبل أحمد الدن، وخريستو نجم، وحسام خياط، وإيلي شاهين، وأنطوان عويس وسعيد الولي الذي علّم مادة “السينما” في الجامعة اللبنانية في الشمال – كلية الآداب. وذلك بعدما أسّس “نادي سينما طرابلس” الملحق بـ”نادي الجامعيين”. وهناك كانت العروضات في صالة شهرزاد. ويجري في أحيان كثيرة إرسال الفائض من الروّاد إلى سينما “المتروبول” في الطابق العلوي. كما شارك في تنشيط نادي السينما في زغرتا قبيل اندلاع الحرب في الـ 75.
ولم تثنِ الحرب محبّي السينما، ولا سيما الذين يتقنون اللغات الأجنبية، عن مشاهدة الأفلام الفرنسية والإيطالية ومناقشتها، وهي من إخراج “جان غابين” و”جان رينوار” و”فريدريكو فيليني”. لم تثنِهم من الاستمرار في “نادي السينما” داخل القصر البلدي الذي أداره سعد الولي. وكان لقيام “نادي السينما” خلال تلك الفترة العصيبة “إجراءاتها” الخاصة، فيعمل المنظّمون للنادي على محاولة حماية مركز العرض من دخول العناصر المسلحة.
كانت الأفلام العربية شبه محتكرة في دور الريفولي وأحياناً الكابيتول والروكسي، ومعظم روّادها من الأحياء الشعبية يفدون لحضورها
وقد ساهمت البعثات الثقافية الأوروبية خلال الثمانينيات في تنشيط السينما في طرابلس، لا سيما معهد “غوته” الألماني، والمركز الثقافي الفرنسي في مقرّه السابق في ساحة عبد الحميد كرامي مع المنشّطة “رينيه خضر”.
في الميناء أيضاً، كان يفد إلى سينما “فيكتوريا” وسينما “كليوبترا” روّاد “نادي السينما” الذي أسّسه المخرج جان رطل مع أصدقاء له وبتمويل ذاتي من سنة 87 حتى توقف في الـ89، سنة الانقلاب العسكري. إصراره مع أصدقائه اليساريين على استمرار “نادي السينما” كان حركة تمرّد من شباب رفضوا أن تقتصر أحاديث أهالي المدينة وانشغالاتهم في حصار طرابلس وحرب التوحيد.
ليس انكماش السينما فجائياً، بل إنّ تقلص أعدادها إلى دار واحدة في السيتي كومبلكس، مرّ بمراحل كثيرة، وله أسباب متداخلة، لعلّ أهمها بدايات الحرب الأهلية في العام 75 التي قلصت اهتمام الطرابلسيين بالعروض السينمائية، ففضّلوا ملازمة منازلهم على التنقّل تحت تهديد الأوضاع الأمنية الحرجة.
وما صمد من دور السينما خُتمت بالشمع الأحمر لأنّها عرضت أفلاما إباحية، فتحوّلت الدور الموصدة إلى مرتع للقوارض، بالتوازي مع تأثير الفيديو والأفلام المستأجرة، ليقضي “الستالايت” ثم الأقراص المدمجة، وأخيراً الإنترنت على آخر رمق لها.
اليوم طرابلس بلا سينما. مدينة كانت تغصّ بالدور والعروض، وباتت السينما فيها اليوم لاجئة إلى مراكز ثقافية، كما لو أنّها “تهرّبها” إلى محبّيها. أو كما لو أنّ السينما تتراجع خطوة إلى الوراء، مع محبّيها، لعلّها تتقدّم خطوات إلى الأمام، قريباً، هذا إذا خرج الكوكب من عزلة كورونا التي يبدو أنّها قد تجعل الكوكب كلّه بلا سينما، إلى أجل غير مسمّى.