لنتجاوز مزحة “الجهاد الزراعي”، وما أنتجته من سخرية على وسائل التواصل الاجتماعي لم يسبق أن جوبه بمثلها خطاب لحسن نصرالله. ليس من سلبية تجاه فكرة الزراعة نفسها أو التفكّر في هوامش النمو الممكنة لهذا القطاع. بيد أنّ الأكيد أنّ أفكاراً كالتي طرحها نصرالله، حول “تحوّلنا جميعاً” إلى مزارعين، وأنّ علاج أزمة الجوع المحتملة والناجمة عن الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي في لبنان، يكمن في زراعة النعناع والبندورة على الشرفات، يشير إلى عدم فهم خطير لحجم المخاطر التي يواجهها لبنان، وإلى ضحالة العدة التي بها يقارب نصرالله وحزبه مستقبل اللبنانيين وحاضرهم.
إقرأ أيضاً: زعيم الأمّة خبيراً زراعياً: أنظروا إلى ودائعكم تحترق
لنترك مزحة الزراعة جانباً في بلاد تملك رأسمالاً بشرياً يعدّ من الأكثر كفاءة واتساعاً في المنطقة، ولا يعمل إلا جزء بسيط منه في قطاع الزراعة، أكان في لبنان أو الخارج. في حين أنّ الكفاءات اللبنانية تُستقطب في كلّ أنحاء العالم لقيادة كبريات الشركات العاملة في الأسواق المالية والخدمات.
قبل أسابيع، عيّنت سلطة النقد في هونغ كونغ، اللبناني رامي حايك، كبيراً للمستشارين في البنك المركزي، ليكون أول أجنبي يشغل هذا المنصب في هذه المقاطعة التابعة لسيادة الصين والمتمتعة بحكم ذاتي. قبله عُيّن ميشال عباس خلف رئيسًا تنفيذيًّا أول لشركة التأمين الأميركيّة الشهيرة MetLife، التي تعدّ من أكبر شركات التأمين في العالم، وذلك بعد توليه مسؤولية إدارة الشركة في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا. وهو بالمناسبة، شقيق رولا خلف، رئيسة تحرير جريدة “فاينانشال تايمز”، أعرق الصحف الاقتصادية في العالم.
كيف السبيل لإقناعه أنّ نظرية زراعية تنتمي إلى القرن الثامن عشر لا تفيد سوقاً مليئة بأمثال ميشال، ورامي وتالا..
صالونات بيروت مليئة بقصص عن نجاحات مماثلة وإنْ مخفيّة بخَفَر وتواضع. في صالون أحد أبرز مصمّمي المجوهرات في بيروت (لا داعي لأن نقول في المنطقة) سيدة تحدّثني بهدوء عن ابنتها، تالا صافية، ابنة الـ 27، التي عُيّنت مؤخراً مديرة فنية لقسم “نيويورك تايمز” المخصّص للفنون والأدب والسينما وأخبار المسرح، وكانت جهودها جزءاً من الجهود التي أهدت صحيفتها جائزة “بوليتزر” قبل نحو شهرين!
لا يعرف نصرالله هؤلاء اللبنانيين، مثلما لا يعرف الكثير عن أحوال العالم.
كيف السبيل لإقناعه أنّ نظرية زراعية تنتمي الى القرن الثامن عشر لا تفيد سوقاً مليئة بأمثال ميشال، ورامي وتالا..
هل مرّ على تجربة سنغافورة واقتصادها الجبّار الذي يعدّ مموّلًا رئيسيًا للاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) في العالم، فيما هو نفسه هدف لتدفّق الاستثمارات الأجنبية المباشرة من المستثمرين والمؤسسات العالمية بسبب مناخها الاستثماري الجذّاب والبيئة السياسية المستقرة. سنغافورة الأصغر من لبنان بأكثر من 14 مرة، هي صاحبة ثالث أعلى دخل فردي قياساً إلى الناتج القومي في العالم، رغم أنها لا تلبس مما تنسج، ولا تأكل مما تزرع. ولم يسبق أن دعَا أحد أبنائها لزراعة النعناع على الشرفات. فبالإضافة الى كونها مصدراً عالمياً للشرائح الالكترونية يضمّ سوق الخدمات المالية في سنغافورة، أكثر من 200 بنك، وتعدّ مركزًا إقليميًا مفضّلًا للعديد من شركات الخدمات المالية العالمية، وناقلاً رئيسياً للمعرفة والتكنولوجيا والمهارات بين الأسواق العالمية والإقليمية والمحلية.
كيف السبيل لإقناعه أنّ تجربة الاستثمار الصيني في البنية التحتية لبناء عالم تكون الصين مركزه، أو “مبادرة الحزام والطريق” صارت اليوم درساً في علم السياسة اسمه “فخ الدَّين الصيني”.
عام 2018 وحده وقبل كارثة “كوفيد-19″، انخفضت قيمة مشاريع البنية التحتية الجديدة في 61 دولة بنسبة 13 في المائة إلى 126 مليار دولار أمريكي، وواصلت انخفاضها العام الفائت.
لا يوجد حتى الآن، خارج الدعاية الممنهجة لبعض وكلاء الشركات الصينية، أيّ اقتراح صيني تفصيلي يخصّ أيّاً من المشاريع الحيوية التي تعين لبنان على الخروج من أزمته لا سيما الكهرباء
وقد انخفض إقراض “مبادرة الحزام والطريق” من قبل البنوك الرئيسية في جمهورية الصين الشعبية بنسبة 89 % منذ عام 2015، وتوقّف الإقراض من قبل البنوك التجارية بشكل شبه كامل، لا سيما وأنها تعاني مع صعوبات مالية خاصة على المستوى المحلي.
في هذا السياق، تشير مجلة “إيكونوميست” إلى أنّ مصر أجّلت في شباط الفائت إلى أجل غير مسمى بناء ثاني أكبر محطة كهرباء تعمل بالفحم في العالم وبتمويل صيني. بعدها بشهر، ألغت بنغلاديش خططاً لإنشاء مصنع ضخم للفحم. أما باكستان، فطلبت من الصين تسهيلات لسداد الديون الصينية المخصّصة لبناء مشاريع طاقة قيمتها 30 مليار دولار. وأعلنت تنزانيا أنها ستلغي مشروع ميناء بقيمة 10 مليار دولار لأنّ شروط الاتفاق مع الصين تنصّ على أنّ الصين تستحوذ على سيطرة كاملة على الميناء بإيجار لمدة 99 سنة. وفي أيار الفائت، صوّت النواب في نيجيريا على قانون لمراجعة جميع قروض الصين للمشاريع الصينية وسط مخاوف من أنّ التمويل ربما تمّ الاتفاق عليه بشروط غير مواتية.
أما ما يعني لبنان فلا يوجد حتى الآن، خارج الدعاية الممنهجة لبعض وكلاء الشركات الصينية، أيّ اقتراح صيني تفصيلي يخصّ أيّاً من المشاريع الحيوية التي تعين لبنان على الخروج من أزمته لا سيما الكهرباء، كما أنّ الصين لم تشارك في مؤتمر سيدر الدولي والمخصص لمساعدة لبنان على النهوض باقتصاده من خلال خطتي إصلاح واستثمار تفصيليتين.
الصين، كما زراعة النعناع على الشرفات، مجرّد ذريعة للقول إن ثمّة حلولاً للبنان خارج النقاش التفصيلي في الجذر السياسي للأزمة التي يمرّ بها البلد وعنوانها الأول والأخير سلاح حزب الله.
قيل سابقاً: “اطلبوا العلم ولو في الصين”. يبدو أنّ نصرالله يطلب الأعذار ولو في الصين.