لا تكفّ وزيرة الطاقة السابقة ندى بستاني عن تكرار مقولة أنّ البنك الدولي موافق على إنشاء معمل كهرباء في سلعاتا، لكنها لسبب ما لا تأتي على ذكر التوصيات الواردة في تقريره الأخير عن قطاع الكهرباء اللبناني.
في هذا التقرير، يحدّد البنك الأولوية الثانية أمام الحكومة اللبنانية “بمراجعة وإعادة إصدار طلبات تقديم العروض لمحطات التغويز، للتركيز على الزهراني وديرعمار”، ما يعني عملياً صرف النظر عن ترسية إنشاء ثلاث محطات، إحداها في سلعاتا على تحالف “قطر للبترول” مع “إيني” الإيطالية، على النحو الذي يتمسك به رئيس التيار الوطني الحر.
إقرأ أيضاً: دياب وباسيل وثالثهما “سلعاتا”
بل إنّ التقرير يوصي الحكومة، بصريح العبارة، باختيار أفضل العروض لمحطتي التغويز في الزهراني وديرعمار خلال الأيام المئة الأولى من عمر الحكومة الحالية، وهو ما لم يحصل، بل إنّ ما حصل أن باسيل خرج بعد الأيام المئة ليتمسك بترسية المحطات الثلاث معاً، ويثير الشبهات حول دوافع المطالبة بترسية محطتين بدلاً من ثلاث.
معملا الذوق والجية كانا سيوفّران 450 ميغاوات إضافية في العام 2022 لولا الأولويات العونية
لا يتوقف النقاش عند محطة التغويز في سلعاتا، بل يشمل محطة الكهرباء أيضاً. فتقرير البنك الدولي يشير في الصفحة 36 إلى أنّ على الحكومة أن تنجز خلال 12 شهراً من بدء نشاطها، “تقييماً أوليَاً معلناً للعموم، للآثار البيئية والاجتماعية، بما في ذلك إجراء مشاورات مع العامة، في شأن المعمل المقترح في سلعاتا، بما يتوافق مع معايير المؤسسات المالية الدولية، لتحليل التكاليف والآثار في كلٍّ من المواقع المقترحة، للتوصية بالموقع الأنسب”. وفي هذا يشير بوضوح إلى أنّ الموافقة على هذا المشروع مرتبطة بعمليات التقييم المشار إليها، وهي تتطلّب وقتاً ليس بالقليل لإنجازها، لكن الاستعجال العوني يضع سلعاتا على رأس قائمة الأولويات، إلى درجة أنّ الخطة المحدّثة التي أقرّها مجلس الوزراء في نيسان 2019 تلحظ البدء في المشروع في العام 2020، واستكمال المرحلة الأولى منه في العام 2022، بينما تؤخر مشاريع معامل الذوق والجية والحريشة إلى ما بعد العام 2024!
اللافت أنّ وزير الطاقة الحالي ريمون غجر بدا في مقابلته الأخيرة مع مارسيل غانم الخميس الماضي، أقل حماسةً لسلعاتا من بستاني وباسيل. ففي ما يتعلق بمحطة التغويز، كان كلامه ناقضاً للحجج العونية، إذ أشار إلى أنّ لبنان تكفيه محطة واحدة لولا صعوبة تمديد الأنابيب بحراً من الشمال إلى الجنوب. ومؤدى ذلك أنّ الاعتبارات التقنية تحتّم إقامة محطتي تغويز فقط، واحدة في دير عمار والأخرى في الزهراني، وهذا ما يتفق مع توصية البنك الدولي الصريحة.
الهدر الفني في شبكتي النقل والتوزيع يقدر بنحو 17% وهو من الأعلى عالميا
أما في ما يتعلّق بمعمل الكهرباء، فدافع غجر بكلمات قليلة عن موقع سلعاتا، ولم يذكر إلاّ القليل من الحجج التي أفردت لها بستاني مؤتمراً صحافياً مطولاً.
تلك الحجج العونية يمكن تلخيصها بما يلي:
– موقع سلعاتا حاز على ثاني أعلى درجة في تقييم الاستشاري Mott Macdonald للمواقع المقترحة لإنشاء معامل الكهرباء، بعد الزهراني.
– موقع معمل الذوق لا يمكن أن يكون بديلاً لسلعاتا، لأنّ أرضه مبنية بالكامل ولا توجد أرض إضافية تابعة لمؤسسة كهرباء لبنان أو لوزارة الطاقة في معمل الذوق تكفي لبناء معمل جديد.
– من غير الممكن توفير الكهرباء 24/24 من دون معمل للكهرباء في سلعاتا، باعتبار أنّ المعملين الآخرين في الزهراني وديرعمار لا يكفيان لسدّ العجز في إنتاج الطاقة.
– لا يمكن الاستعاضة عن (استملاكات) سلعاتا بإقامة معامل كبيرة في المواقع الأخرى المملوكة للدولة، لأن شبكة النقل “ضعيفة”.
الحجة الأولى تنطوي على شيء من التعمية. فتقييم الاستشاري العالمي Mott Macdonald أعد في العام 2014، وهو مبني على مؤشر مركب من ثمانية عوامل، تشمل على سبيل المثال سهولة وصول الغاز أو الفيول إلى المعمل، والعوامل الأمنية والبيئية، ومدى سهولة الربط بالشبكة، ومدى سهولة البناء في الموقع. وضمن هذه الآلية، لا تشكّل ملكية الأرض سوى واحد من 27 مؤشراً فرعياً. والأهم أنّ الدراسة لا تتضمّن تقييماً للجدوى الاقتصادية والمالية لإقامة المعمل بعد الأخذ في الاعتبار تكاليف الاستملاك.
ومن المهم الإشارة إلى أنّ تقييم Mott Macdonald والذي عرضته بستاني في مؤتمر صحافي مؤخراً، انتهى إلى صلاحية خمسة مواقع لإقامة معامل كهرباء هي الزهراني وسلعاتا والدامور وشكا ودير عمار. لكن الأهم أنّ الدرجات التي حازها موقع سلعاتا كانت للموقع الذي تخلّت عنه وزارة الطاقة في حنوش، والذي كان من المفترض، حسب الاعتقاد في ذلك الحين، أنّ أجزاء كبيرة منه مستملكة بالفعل. بل إنّ التقديرات بأنّ تكلفة الاستملاك يمكن أن تتجاوز 200 مليون دولار لم تظهر إلا بعد أكثر من سنتين، في مشروع ملف الاستملاك الذي أعدته كهرباء لبنان، المرفوع إلى وزارة الطاقة في نيسان 2017.
وزير الطاقة الحالي ريمون غجر بدا في مقابلته الأخيرة مع مارسيل غانم الخميس الماضي، أقل حماسةً لسلعاتا من بستاني وباسيل
وجدير بالإشارة هنا أنّ ذلك التقييم شمل تسعة مواقع ليس من بينها الذوق والجية، مع أنهما موجودان في المخطّط التوجيهي الذي أعدّته كهرباء فرنسا EDL، وفي خطة الكهرباء المحدّثة التي أقرّتها الحكومة السابقة في نيسان 2019.
نعود إلى السؤال التقني – المالي: هل صحيح ما يقوله العونيون بأنّ توفير الكهرباء 24/24 غير ممكن من دون سلعاتا؟ وأنّه ما من حلّ آخر يوفّر على المال العام مئات الملايين من الدولارات؟
يجب الإيضاح هنا أنّ ذروة الطلب على الكهرباء قاربت 3700 ميغاوات العام الماضي، بينما تقارب الطاقة الموضوعة على الشبكة 2400 ميغاوات، بما فيها البواخر. ويفترض أن توفّر المشاريع الجديدة طاقة إضافية بأكثر من 3000 ميغاوات على المدى البعيد، لتسدّ العجز وتغني عن البواخر التركية، وعن الاستجرار من سوريا.
لكن في مدى العامين المقبلين، ما الذي يجعل العونيين يلحّون على البدء بمعمل سلعاتا الذي يتطلب استملاكات بتكلفة باهظة، قبل أيّ موقع آخر؟
هل صحيح ما يقوله العونيون بأنّ توفير الكهرباء 24/24 غير ممكن من دون سلعاتا؟ وأنّه ما من حلّ آخر يوفّر على المال العام مئات الملايين من الدولارات؟
عرضت بستاني في مؤتمرها الصحافي الأخير صورة جوية لمعمل الذوق، لتشير إلى أنّ أرضه لا تتسع لإقامة معمل إضافي، وفي هذا شيء من التدليس. فالمخطط التوجيهي الذي أعدّته “كهرباء فرنسا” لمعامل الكهرباء حتى العام 2030، يلحظ وجود ثلاثة معامل في الذوق، بطاقة إجمالية تصل إلى 1390 ميغاوات، مقارنة بنحو 350 ميغاوات حالياً، وهذا يسقط القول بأنّ موقع الذوق لا يتسع لمعمل آخر. (مع الإشارة إلى أنّ المخطط التوجيهي يتضمّن موقع سلعاتا بطبيعة الحال، لكن السؤال هنا عن سبب تقديمه على ما عداه، على الرغم من تكلفة الاستملاكات المرتفعة).
وفي ورقة السياسة التي دفعت بها بستاني إلى مجلس الوزراء لفصل المعمل الحالي في الذوق من الشبكة في العام 2022، وإقامة معمل جديد على أنقاضه بطاقة 550 ميغاوات، تدخل المرحلة الأولى منه الخدمة في العام 2024 بطاقة 350 ميغاوات. بينما خطتها لمعمل “سلعاتا – 1” كانت تقوم على البدء به في العام 2020، لتنجز المرحلة الأولى منه، وهي مرحلة الدورة المفتوحة OCGT، في العام 2024.
هناك حقائق يخفيها التيار العوني هنا، ويكشفها تقرير “تقدّم العمل” الأخير لمجلس الإنماء والإعمار الصادر في تشرين الأول من العام 2018. يشير هذا التقرير إلى توفّر التمويل من الصندوق العربي لتأهيل الوحدات الأربع القائمة في معمل الذوق وتفكيك معمل الجية، وفق برنامج عمل يمتدّ من خمس إلى ستّ سنوات، بما يسمح برفع الطاقة الفعلية للمعملين من 551 ميغاوات حالياً إلى ألف ميغاوات، أيّ بزيادة 450 ميغاوات، أيّ ما يعادل ثلث العجز القائم حالياً في القطاع.
ويلفت تقرير مجلس الإنماء والإعمار إلى أنّ هناك دراسة جدوى فنية واقتصادية منجزة منذ العام 2017، أعدّتها “كهرباء فرنسا” EDF، لتشييد محطة لتوليد الكهرباء على أرض معمل الجية بطاقة 600 ميغاوات، بمواصفات بيئية، بعد تفكيك المعمل القائم حاليا وإزالة مادة الإسبستوس المسرطنة وتنظيف التربة في الموقع.
بعد 11 سنة من الإدارة العونية للقطاع لا تجد بستاني حرجاً في الحديث عن ضعف شبكة النقل
ولو بدأ العمل بهذا البرنامج بالفعل في العام 2018 لكان من الممكن أن تضاف إلى الشبكة 450 ميغاوات في العام 2022، أيّ مرّة ونصف الطاقة التي سيضيفها معلمل “سلعاتا – 1” في مرحلته الأولى. لكن الخطة العونية أخّرت البدء بهذين المعملين إلى العام 2022، لتعطي الأولوية للبدء بمعمل سلعاتا، الذي لا تتوافر له الأرض حتى اليوم!
وهنا يّطرح السؤال: لماذا أهمل التيار العوني دراسة الجدوى المنجزة والتمويل الناجز؟ هل لأنّ سياسة الابتزاز تقتضي عدم السير بأيّ مشروع ما لم يحصّلوا موافقة على معمل سلعاتا؟
أكثر من ذلك، تقضي خطة الكهرباء التي يتبنّاها العونيون بإنشاء معمل حراري بطاقة 300 ميغاوات في الحريشة، على بعد 20 كيلومتراً فقط إلى الشمال من سلعاتا. وهذا الموقع تقوم عليه محطة صغيرة حالياً بطاقة 35 ميغاوات، أي إنّ فصله من الشبكة ليس له تأثير كبير، لكن الخطة العونية لا تلحظ دخول المحطة الجديدة في الحريشة إلى العمل إلاّ بعد سنتين من “سلعاتا – 1″، لماذا؟ هل لأنّ نفوذ باسيل هناك أقلّ؟
تبقى الحجة الأخيرة، وهي الأغرب، تلك المتعلّقة بضعف شبكة النقل. بعد 11 عاماً من إمساك العونيين بزمام القطاع النفطي، لا تجد السيدة بستاني حرجاً في الحديث عن عدم صلاحية الشبكة لنقل الكهرباء لبضع عشرات من الكيلومترات، بينما مصر التي تفوق مساحتها لبنان بمئة مرّة، اكتفت بإنشاء 3 محطات بطاقة 3800 ميغاوات لكلٍّ منها، أيّ سبعة أضعاف كلٍّ من المحطات الخمس التي تلحظها الخطة اللبنانية في دير عمار وسلعاتا والذوق والجية والزهراني.
وتلك مناسبة للالتفات إلى مدى الفشل في إدارة القطاع خلال العشرية المظلمة، ليس فقط على صعيد إنشاء المعامل الجديدة، بل أيضاً على مستوى الهدر الفني في شبكتي النقل والتوزيع، الذي يصل إلى 17%، حسب تقرير البنك الدولي، وهي واحدة من أعلى النسب في العالم.
والفشل لا يقل فداحة في الجباية والفوترة، فبعد تسع سنوات من انطلاق مشروع مقدّمي الخدمات، ما زال الهدر في الجباية يتجاوز 20%، وما زالت الفواتير تصدر متأخرة بردح من الزمن. ويكفي أنّ الوزارة الميمونة كانت قد تعهدت بأن تصل إلى الفوترة الشهرية في كلّ لبنان في مطلع العام 2020، وهو ما لم يتحقّق.
ولعل المثال الفاقع على الفجوة بين الوعود والتنفيذ، سرد ما كان يجب أن يتحقّق، وفق خطة بستاني، في العامين 2019 و2020:
– البدء بتنفيذ معمل “دير عمار – 2” في 2019،
– خفض الهدر الفني وغير الفني من 34% إلى 25%،
– البدء بتركيب العدادات الذكية العام الماضي،
– وضع 180 ميغاوات من الطاقة الشمسية و220 ميغاوات من طاقة الرياح على الشبكة هذا العام،
– وضع 1450 ميغاوات من الطاقة الموقتة على الشبكة، لتصل التغذية إلى 24/24 هذا العام.
مأزق لبنان أنّ الوقت الذي كان متاحاً للعمل أُهدر في المناكفة والقتال من أجل المصالح، وليس أكيداً أنّ الفرصة ما زالت متاحة لمن يريد الإصلاح، هذا إن أراد!
الخريطة: المخطط التوجيهي الذي أعدّته “كهرباء فرنسا”