لم تعد أزمة التعليم في القطاعين الخاص والرسمي مخفية. وزير التربية الدكتور طارق المجذوب دقّ ناقوس الخطر أمس، معلناً أنّ المدارس الرسمية “بالكاد ستستطيع استقبال التلاميذ في المدارس الرسمية في العام المقبل”، لأنّه “أمام تعاظم الاعباء قد نضطر إلى استئجار مبان جديدة”، طالباً من “المجتمع الدولي مساعدتنا مادياً للاستمرار في تأمين تعليم مع مستوى للطلاب اللبنانيين وللنازحين”.
“الله يستر وين رايحين”، بهذه العبارة يلّخص رئيس “مصلحة التعليم الخاص في لبنان” عماد الأشقر، الوضع في حديثه لـ”أساس”، دون أن يستبعد تخطّي الرقم المتوقع للنزوح التعليمي من القطاع الرسمي إلى القطاع الخاصّ نبوءة الـ100 ألف، التي تبدو أقرب إلى المنطق. ويلفت إلى أنّ النزوح ينقسم إلى فئتين: نزوح إلى التعليم الرسمي، ونزوح من مدارس خاصة إلى أخرى أقلّ تكلفة.
إقرأ أيضاً: الانهيار التعليمي للسنة الجديدة: 75 ألف طالب من دون مقعد دراسي
كارثة العام التعليمي، والنزوح من الخاصّ إلى الرسمي، كان قد حذّر “أساس” منها في تحقيق سابق، كشف أنّ 100 ألف طالب سيهجرون مقاعدهم التعليمية كي يتجهوا إلى التعليم الرسمي، وأنّ نسبة كبيرة من هؤلاء لن يستوعبهم هذا القطاع، ما يضع 75 ألف طالب تحت خطر عدم وجود مقاعد دراسية لهم في العام الدراسي المقبل، أي بعد أشهر قليلة.
هذه الأزمة، التي حذّرنا منها في أيّار الماضي، تفاقمت اليوم مع تزايد التردّي الاقتصادي، والانهيار الإضافي في سعر صرف الليرة أمام الدولار، إضافة إلى استمرار انتشار فيروس الكورونا. أما وزير التربية طارق مجذوب فهيّأ الأهالي والطلاب لـ”التعليم عن بعد”.
غير أنّ الانتقال من التعليم الخاص إلى التعليم الرسمي في ظلّ القدرة الاستيعابية المحدودة بات ترفاً، ما وضع الأهالي أمام عراقيل عدّة، أوّلها إيجاد مدرسة مناسبة، وثانيها توفّر مقعد دراسي في هذه المدرسة.
نجوى أحمد (33 سنة)، هي إحدى الأمهات التي تبحث عن مقاعد لأولادها في المدارس الرسمية. “لديّ ولدان في الصفين الثالث والرابع الابتدائي”، تقول نجوى، لافتة إلى أنّ قرار نقلهما من “مدرسة النور الإسلامية” إلى التعليم الرسمي سببه تراجع مدخول العائلة لامالي بعد ثورة 17 تشرين وانتشار كورونا.
العائلة التي تتكبّد شهرياً إيجار بيت قيمته 450 ألف ليرة، لم يعد لديها قدرة على تحمّل القسط المدرسي البالغ 825 ألف ليرة للولد الواحد، هذا دون القرطاسية، والكتب. مع الإشارة إلى أنّ الكتب باهظة الثمن ويتمّ شراؤها بالدولار، على ما تقول نجوى.
نجوى التي كانت تعمل في مجال التعليم، قبل أن تخسر عملها بسبب الأزمة، يعمل زوجها في دهّاناً. غير أنّ إصابة في ظهره أوقفته قسرياً عن العمل، وها هي اليوم تبحث عن مدرسة رسمية مناسبة لأولادها: “ما زلت أبحث. المدارس تقول إن لا تسجيل قبل 15 آب. حاولت وضع اسميهما على قائمة الانتظار، لكن دون جدوى”.
وفيما تعوّل نجوى على علامات ولديها المرتفعة كي يتمّ قبولهما في مدرسة جيدة، لا تنفي في المقابل اللجوء إلى واسطة عند الحاجة: “لن أتخبى وراء إصبعي. لا أملك خياراً ثانياً حينها”.
الانتقال من التعليم الخاص إلى التعليم الرسمي في ظلّ القدرة الاستيعابية المحدودة بات ترفاً
وكما نجوى، يعتزم خالد خ. (32 سنة)، نقل ابنه البالغ من العمر 6 سنوات من “مدرسة الجنان”، بعدما ضاقت به السبل، ولم يعد باستطاعته دفع القسط الذي يتجاوز سنوياً الـ4 ملايين ليرة: “طلبت منّا المدرسة أن ندفع المبلغ المتبقّي من القسط خلال شهرين”، يقول خالد لـ”أساس”، كاشفاً عن زيادة في الأقساط تتردّد في أوساط الأهالي.
الوالد الذي يعمل في محلّ إلكترونيات، لديه طفل رضيع ثانٍ، ولا يتجاوز راتبه الحدّ الأدنى للأجور. راتب يتأثر بالأوضاع الاقتصادية التي يمرّ فيها لبنان، فينخفض أحياناً تبعاً لحركة المبيعات.
نقل طالب في المرحلة الابتدائية إلى التعليم الرسمي ليس بالقرار السهل، على حدّ قول خالد، الذي ما زال يبحث عن مدرسة مناسبة لابنه، في ظلّ تخوّفه من وضع البلد، ومن عام دراسي مشلول بسبب الكورونا.
في حال تعثّرت الأمور هل ستبحث عن الواسطة؟: “لا واسطة لدي”، يقول خالد. وهو الذي عاد من السعودية حديثاً إلى لبنان. قرار يتحسّر عليه في بلد لم يؤمّن له ولعائلته أيّ نوع من الأمان.
أحد أولياء الأمور (طلب عدم نشر اسمه) يروي لـ”أساس” أنّه سينقل أولاده من مدرسة “الليسيه أنترناشيونال” بسبب “الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وبسبب الخوف من فيروس الكورونا، وإمكانية تمضية عام دراسي جديد في التعلّم عن بعد، ودفع الأقساط دون حضور التلاميذ”.
العائلة التي تراجع مردودها بشكل لافت، لم يعد لديها قدرة على دفع الأقساط المدرسية التي يبلغ مجموعها 20 مليون ليرة للأولاد الثلاثة، دون الكتب والقرطاسية والإضافي: “أنا أثق بالتعليم الرسمي، خصوصاً في المرحلة الثانوية”، تقول الوالدة، موضحة أنّها ستنقل ابنيها اللذين في المرحلة الثانوية إلى مدرسة رسمية. أما الولد الثاني الذي ما زال في المرحلة الابتدائية، فسيُنقل إلى مدرسة خاصة أخرى بتكلفة أقلّ.
وفيما لا تسجيل حتى اللحظة في المدارس الرسمية للطلاب الجدد، تنتظر العائلة الأوّل من أيلول للخضوع لامتحانات دخول. إلى ذلك لا تنفي الوالدة اللجوء إلى الواسطة: “في النهاية الواسطة هي الأساس، لا سيما في ظلّ الضغط على المدارس الرسمية”.
مصادر وزارة التربية تؤكد لـ”أساس” أنّ موضوع النزوح من التعليم الرسمي إلى التعليم الخاص لم يطرح بعد، مضيفة: “لا تسجيل بعد فقط وضع أسماء على لائحة الانتظار. وأيّ كلام الآن لا فائدة منه قبل فتح المدارس. كذلك هناك أزمة كورونا، ووزارة التربية تتابع التوصيات”.
لا تنفي المصادر أنّ التعليم عن بعد سيوفر الضغط. ولكن بحسب قولها فإنّ “هذا الكلام سابق لأوانه. علينا أن نراقب الأوضاع، لا سيما وأنّ المدارس هي آخر من سيفتح أبوابه مع أزمة كورونا”. كذلك تلفت المصادر إلى أنّ بعض المدارس الخاصة بدأت تحصل على الدعم، كالمدارس الفرنسية، ما يعني تأمين قدرتها على الاستمرار.
أزمة التعليم الخاص والنزوح منه، كان محور حديث “أساس” مع الأشقر، الذي عرض لنا تحدّيات عدّة، قائلاً: “المشكلة الأساسية والتحدّي الكبير هو الوضع الاقتصادي. كثير من المدارس بدأت تعلن روزنامة، وتقول إنّها ستفتح أول أيلول، لكن لا أحد يعرف أيّ شيء. الكورونا بدأت تتفاعل ولا نعرف ما مصير العام التعليمي. ثانياً، هناك موضوع الدولار وسعر الصرف الذي سيؤثّر في الناس من ناحية تآكل الرواتب والأجور. هذه الخضّة مسحت كلّ ما اسمه طبقة وسطى. وأنشأت طبقة الفقراء الجدد”.
موضوع النزوح من التعليم الرسمي إلى التعليم الخاص لم يطرح بعد
“كم ستكون القوة الشرائية وقدرة إطعام وتعليم الأولاد”، يسأل الأشقر، مضيفاً: “هناك تحدٍّ جديد اسمه الكتاب المدرسي وكلفته. إحدى المدارس الفرنسية فاتورة الكتب فيها 300 يورو، أي ما يعادل 3 ملايين و 300 ألف”.
ويحذّر الأشقر المدارس الخاصة من التمسّك بعاداتها: “على المدارس الخاصة أن تتراخى قليلاً. لا يمكن التمسك لا بالقرطاسية المطرّزة ولا باللباس الباهظ الثمن”، متمنّياً في المقابل أن يكون هناك عام دراسي آمن.
وبالعودة إلى المشاكل التي يواجهها أولياء الأمور الذين يحاولون نقل أولادهم من الخاص إلى الرسمي والبحث عن واسطة، يقول الأشقر: “من ليس لديه ظهر يؤلمه بطنه من الخبيط”، مشيراً إلى أنّ وزير التربية سيكون حريصاً على إعطاء الأوامر لكلّ مديري المدارس كي يسجّلوا الطلاب وفق القدرة الاستيعابية، على أن تكون الأولوية لأبناء المنطقة، ثم أبناء المناطق المجاورة.
أما عن تعليم أونلاين، فهو بالنسبة للأشقر تحدٍ ثانٍ: “موضوع التعلّم عن البعد، موضوع واسع. هناك البنى التحتية، الإنترنت، والكهرباء، بالإضافة إلى قدرة الأهالي والتي قد تتراجع في المرحلة المقبلة. ما يعني أنّ هناك عائلات قد لا تتمكّن من استعمال الهواتف”.
بكلّ صراحة وشفافية، يؤكّد الأشقر أننا في أزمة “ليس تقصيراً من القطاع الخاص ولا من الدولة، ولكن بسبب الوضع الاقتصادي”، داعياً المدارس الخاصة إلى تفّهم الأهالي والتعاطي معهم بطريقة مختلفة: “خلال الأزمات يجب أن نتكاتف”.
“القطاع الخاص لم يصبح ما هو عليه لولا الناس”، يشدّد الأشقر، مضيفاً: “يجب على هذا القطاع ألّا يتخلّى عن الناس عند أول هزّة. فعلى سبيل المثال، إن كنت فلاحاً ولدي شجرة تعطيني كلّ عام ثمراً. وفي أحد الأعوام مرضت. هل أداويها؟ أم أتركها؟”.
إذاً، نحن أمام عام تعليمي “مجهول”. ومع متطلّبات المدارس الخاصة وزيادة الأقساط، فإنّ حركة النزوح إلى التعليم الرسمي ستتضاعف في المرحلة المقبلة حتماً. فأيّ مواطن قادر على شراء كتاب بـ20$؟؟ بالحدّ الأدنى. وقرطاسية يتجاوز سعرها أحياناً الـ400 ألف. أما عن الزي المدرسي والزيّ الرياضي، فحدّث ولا حرج.
لا شكّ أنّ التعليم الرسمي أكثر رحمة. وإن كان يعاني في بعض مراحله من شوائب عديدة. فتسعيرة الكتب معروفة، والقرطاسية “لمن استطاع إليها سبيلاً”. أما الزيّ المدرسي، فهو بسعر مقبول ويمكن استعارته أو خياطته.
يبقى شعار “نيّال الي عندو واسطة”. فحتّى الوصول إلى المدارس الرسمية لن يكون سهلاً. فالمقاعد لا تتّسع لجميع النازحين إلى التعليم الرسمي، على ما نشر “أساس” قبل شهرين، ما أعاد اللبنانيين إلى التفتيش عن “الواسطة”، لتأمين عبور آمن لأولادهم من “الخاصّ” إلى “الرسمي”.