مَن يقرأ مَن؟

مدة القراءة 6 د


أنا العائد إلى المكتوب بعد غياب عن سابق تصوّر وتصميم، أنا الذي حلف باليمين واليسار أن لا لا يرجع إلى الكتابة، أجدني أتراجع قليلاً كخطوة إلى الوراء وأستنفر موهبتي من جديد.

ماذا أكتب عن لبنان الثقافي؟ عن ماذا أدوّن؟ هل أكتب عن ثقافة الكورونا والوحدة والعزلة؟ هل أحقّق في علاقة المثقّف بالمصرف والدولار؟ هل أبحث عن الثقافة والسوبر ماركت؟ عن أجيال تولد من تظاهرات ثم تنام…؟

إقرأ أيضاً: بوهاين 2053… بيروت 2020: مدينة آيلة للسقوط

هل يوجد جيل  ثقافي ولد من انتفاضة 17 تشرين…؟ من هو شاعر الثورة أو مغنيها أو راويها أو سينمائيها؟ ماذا عن اللغة العربية وحربها على نفسها وحروب الأخرين على أرضها… اللغة العربية الفاعلة والمنفعلة مع لغات الآخرين، كيف نقرأها الآن وهي محاصرة من اللغة العبرية والتركية والفارسية والأثيوبة والإنكليزية والفرنسية…؟ ماذا عن الذين يهاجرون بلسانهم العربي إلى لغات العالم؟ وهكذا قرّرنا أن نتعلم من جديد حرفة الثقافة وحواضرها ككاتب وشاعر سابق، وطرقت الباب على موهبتي. منذ شهر لا أحد يجاوبني؟

هل فقدت موهبتي؟ 

يحدث أن تستيقظ باكراً كعصفور وتهمّ بالطيران نحو مدرسة كالشجرة لنتعلم دروس الغناء في حبّ الحياة، وفجأة  تجد حنجرتك مثقوبة من الغصّات، يخرج صوتك بلا شجن. كأنك لم تعد صالحاً لتلعب دورك مُنشداً ومُغرّداً ومبشراً لحب الدنيا وأخواتها.

يحدث ببساطة أن تفقد موهبتك فجأة، وتصبح فارغاً كبالون بلا هواء.

موهبتك سرّ وجودك، وحين تخسرها، تشعر بطعم الموت تحت لسانك، وبالحسرة تنهش لحم وعظم ساعاتك.

الموهبة تعادل الروح، من تغادره، يقع أسير هلوساته. لا كيان له، لا قيمة له، لا مكان ولا زمان له. هكذا يتصحّر من داخله، ويتصخّر من خارجه.

يحدث أن تكون موهوباً بالكتابة مثلاً، وفجأة وبدون استئذان، كالسكتة القلبية، تخمد دفعة واحدة شعلتك الداخلية. كأن تفكر بالكتابة وتجد أنّك خاوٍ مثل برميل يتدحرج، خالٍ من أفكار ولا تسمع سوى قرقعات وجعجعة أصوات لا تتحوّل إلى مفردات. أنت، أي أنا، بلا موهبة، بلا لغة، بلا لسان، بلا يد، وإذا التقطت مفردة ما، وقرّرت البدء بالكتابة، تحرد الكلمات ولا تتابع السير معك ولك ولأجلك، تحثّها، فتعاندكَ اللغة، تتمرّد عليك، تتحصّن في قلعتها، وتجعلك سجيناً خارجها، تنادي الكلمات فلا تطيعك، ولا تردّ عليك، تُهملك، لا تنتبه إلى صراخك عليها. ولا تهتم لكل توسلاتك. تسترضيها فترفض، تحاول رشوتها تدير ظهرها، الكلمات تتآمر عليك وتقرّر إسقاطك عن عرشها…

ماذا تفعل، ماذا تقول؟ حين تفقد القدرة على استعادة موهبتك الضائعة؟ هل تضع إعلاناً مبوباً “فقدت موهبتي ذات صباح ماطر، أرجو ممن يعرف عنها شيئاً الاتصال بي”!

هل موهبتنا تهجرنا كحبيبة قرّرت المغادرة بعد شجار ولا تترك خلفها أثراً، أو وسيلة اتصال لنتواصل معها؟

هل موهبتي “زعلانة” مني؟ لتشيح بوجهها عني ولا تحادثني ولا تكلمني، ماذا فعلت لها؟ ما الذي اقترفته بحقّها؟

هل أهملتها فماتت عطشاً من ماء حرمتها منه، هل تموت الموهبة من الجوع؟ هل تلفظ أنفاسها من مرض كالضجر…؟

كيف نحافظ على موهبتنا لتخدمنا؟ هل تحتاج الموهبة إلى إصلاحات دائمة حتى لا تتعطّل فجأة! لا بدّ من صيانة الموهبة بين الحين والآخر، تلك الآلة الخفية السرية بمعادنها يجب أن نقوم بمراقبتها دائماً، وفحصها دورياً مثل أيّ مريض.

الموهبة سبب للحياة، الموهبة الفطرية أو المكتسبة، علينا أن نعاملها كالأطفال… نرعاها، نطعمها، نشربها، نغذّيها، نسفّرها، نعلّمها، ندلّعها، نغنّجها، نسهر عليها، نحميها.

كأنّني أدفع الثمن الآن. أجدني بلا موهبة تؤنسني، بلا موهبة ترعاني. إنّه الموت على قيد الحياة

يا إلهي… هل كنت عائلة سيئة لطفلة كموهبتي؟ عذّبتها، أهنتها، قاصصتها، منعتها من الذهاب إلى المدرسة، ضربتها، عنّفتها بالشتائم؟ أخذتها إلى سوق العمل باكراً، وحين كبرت موهبتي وصارت مراهقة، شبّت عن طوقي، وهربت من بيتي…؟

هل كنت ظالماً لموهبتي؟

كأنّني أدفع الثمن الآن. أجدني بلا موهبة تؤنسني، بلا موهبة ترعاني. إنّه الموت على قيد الحياة. احترموا موهبتكم تحترمكم. هل  فات الأوان على تصحيح هذا الخطأ القاتل! أسألني أستجوبني. أنا القاتل والضحية والمحقّق.

هل أنا الذي يكتب أم أنّ أحدهم يكتبني؟

هل أنا كاتب أم مكتوب بخطّ أحدهم؟

هل كنت في حياتي مؤلِّـفَـاً أم أنني لست سوى مخطوطة في يد أحدهم يقرأني؟

هل أنا قارئ أم مقروء طوال الوقت، وثمَّة مَن يُقلّبني ويتملَّى حياتي كحروف وكلمات وسطور؟

هل أنا كتاب مُضجِر لأن يهملني أحدهم أو تهملني إحداهنّ، وترميني في سلَّة أو على رفّ؟

مَن يكتب مَن؟

مَن يقرأ مَن؟

أكلُّنا مؤلِّفون لحياتنا، أم لسنا سوى قرّاء لِمَا يؤلّفه الآخرون لنا؟

أجمل الكتب ليس غلافها الواضح، إنّما أغلفتها الداخلية، وكلّما فتحتُ غلافاً كشف لي عن غلاف آخر

هل كلُّنا كُتَّاب تقارير مثلاً، حيث يتجسّس الناس على بعضهم طوال الوقت، كأنّهم رجال مخابرات، يكتبون ملاحظاتهم عن الذين يُجاورونهم، من جيران وأصدقاء وأهل وناس؟

أليست النميمة أحد أنواع التقارير، حيث نختصر شخصاً أو جَمَاعَة في سطرين أو في جُملة واحدة، شتيمة واحدة. 

أنا أكتب، إذن هناك قارئ؟ وأيّ قارئ تُريد… أقل لك أيّ كاتب أنت؟

كلّما كان الكاتب مجهولاً، كانت القراءة أجمل، وكلّما كان القارئ غامضاً، تصبح الكتابة أكثر حرية·

يحدُث، حين كنت قارئاً وما زلت، أنّني صادقتُ كُتبَاً وصدّقتها، لكنّها خانتني في ما بعد، لم تكن تلك الكتب وفيَّة. كانت نفسها أَمَّارة بالسوء، وضعيفة.

نجوت من كتب كثيرة، وخرجت منها برضَّات في الروح، وحاول أكثر من كتاب أن يدهسني.. كتب متهوِّرة، سكرانة، رجّتني.

أجمل الكتب، تلك التي تُشبه علب الهدايا، أي كلّما قرأت كتاباً أُفتّش عن كتبٍ أُخرى في داخله، أنبشها كتاباً تلو كتاب في كتاب واحد، كَمَن يُقشِّر ليمونة بعشرات القشور.

خلف الكتاب كتب، خلف اللوحة لوحات.

خلف الوجه وجوه. أُحبّ ما هو وراء الوراء.

أجمل الكتب ليس غلافها الواضح، إنّما أغلفتها الداخلية، وكلّما فتحتُ غلافاً كشف لي عن غلاف آخر. إنّها الدَّهشة، إنها دهشة الولد الذي يفتّش عن قارئ مثلي، إنها الدهشة التي يُفتِّش عنها كاتب مثلي، لتصبح القراءة والكتابة كأعياد ميلاد وهدايا لا تُحصَى، ومُفاجآت كثيرة.

فاجئْني أيُّها الكاتب، أدهشْني أيُّها القارئ، لا تُصدِّق كلّ ما تقرأه، لأنني لا أُصدِّق كلّ ما أكتبه.

الكتابة حكاية بوليسية في الشعر، أو الرواية أو الفلسفة أو الفن. والقراءة حكاية بوليسية لتُلقِي القبض على روح القتيل، وعلى يد القاتل. سأمارس القتل اليومي كقاتل متسلسل.

 

مواضيع ذات صلة

قُتِل سليم عيّاش وبقي رفيق الحريري

وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا (الآية 93 – سورة النساء).   كالهنود الحمر رقصوا…

قمّة الرّياض: فلسطين أمانتنا

“لقد اتّخذت دولنا خطوات مهمّة عبر تحرّكها المشترك على الصعيد الدولي لإدانة العدوان الإسرائيلي الآثم، وتأكيد مركزية القضية الفلسطينية. ونجحنا في حثّ المزيد من الدول…

يوم أمستردام.. يغزو باريس غداً

بعد أمستردام تتّجه الأنظار إلى باريس حيث سيخوض الفريق الإسرائيليّ “مكابي” مباراته ضدّ الفريق الفرنسيّ “باريس سان جرمان” يوم الخميس المقبل في استاد الأمراء في…

النّقاط السّبع المشتركة بين ترامب ونتنياهو

يعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض منتشياً بعد أربع سنوات من مغادرته له، مستنفراً ومستفزّاً وغير راضٍ بعد انتخابات سابقة خسرها ووصفها بأنّها مزوّرة. لا…