مع تعيين القاضي سهيل عبود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، بعث بكتاب إلى القضاة طالباً منهم كشف السرّية المصرفية عن حساباتهم. 300 من أصل نحو 500 قاضٍ التزموا، فيما طنّش الباقون. ويومها أكد عبود للقضاة أنّ “كلّ مراجعة أو توصية في ملف المناقلات القضائية أيّاً كان مصدرها ستنعكس سلباً على القاضي المعنيّ”.
بعدها غرق مجلس القضاء الأعلى على مدى أشهر في ورشة مناقلات اعتمدت معايير علمية موضوعية استندت إلى الكفاءة والمناقبية والإنتاجية، ثم الأقدمية في حال التساوي بين بروفيل القضاة.
إقرأ أيضاً: وزيرة العدل تجمع ما “قسّمته”.. وعون لن يوقّع التشكيلات
ليس فقط المقابلات مع القضاة وسلّة المعايير، شكّلت العلامة الفارقة في مسار التشكيلات التي فَنّدت كلّ اسم باسمه. فالأسباب الموجبة التي أرفقت بها عند صدورها، شكّلت نقطة تحوّل في أسلوب صدور التشكيلات.
وقد جاء في الأسباب الموجبة أن إنجاز مشروع التشكيلات القضائية “خطوة أولى في مسيرة الإصلاح القضائي”، مع الإشارة الى أنّ “إبعاد المراكز القضائية عن الطائفية والمذهبية هو من أولويات الأهداف المستقبلية لمجلس القضاء الأعلى”.
وفور إقرار التعيينات التي عادت وجمّدتها الحسابات السياسية، كان المجلس سيعكف على إجراء مسح شامل للمحاكم في لبنان.
تشدّد المصادر القضائية على أنّ “ملاحظات رئيس الجمهورية على التشكيلات التي أرسلت إلى رئاسة الحكومة هي غير قانونية وغير دستورية
واستند المجلس، كما ورد في الأسباب الموجبة، إلى “دراسة ملفات كلّ قاضٍ، والسعي لإنصاف من أبعد سابقاً لأسباب لا تتعلّق بمناقبيته، وإبعاد من تحوم حوله الشبهات تمهيداً لمحاسبته. وعلى صعيد القضاء الجزائي، تمّ تعزيز النيابات العامة وقضاء التحقيق لمواكبة الحاجات الملحّة لمكافحة الجريمة والفساد”.
تؤكد مصادر قضائية بارزة لـ”أساس” أنّ “طلب وزيرة العدل التخلّي عن المعيار الطائفي في المناقلات لم يكن منطقياً. فورشة تحرّر مجلس القضاء الأعلى هي تدريجية. إذ تمّ العمل على اختيار القضاة وفق إنتاجيتهم وكفاءتهم مع الالتزام بالضوابط الطائفية التي كان سيؤدي التعديل فيها إلى فتح جبهات من كلّ صوب وتطويق المجلس”. وصل الأمر إلى حدّ مصارحة وزيرة العدل أعضاء مجلس القضاء الأعلى خلال لقائها بهم أنّ “هناك أسماء غير مقتنعة بها”، رافضةً الإفصاح عنها.
وتشدّد المصادر القضائية على أنّ “ملاحظات رئيس الجمهورية على التشكيلات التي أرسلت إلى رئاسة الحكومة هي غير قانونية وغير دستورية، استناداً إلى آلية صدور المراسيم. وبالتالي ما على رئيس الجمهورية سوى التوقيع أو رفض ذلك”.
يجزم عارفو القاضي عبود أنه “لم ينقل المحاصصة من طاولة السياسيين إلى طاولة مجلس القضاء الأعلى. فطوال مسيرته القضائية رفض أن يكون زلمة أحد. ولذلك، فهو لا يقبل الإتيان بزلمه، ويرفض التعاون مع قضاة غير أحرار”.
يؤكد مطلعون أن مجلس القضاء الأعلى ليس بوارد التراجع عن تشكيلاته والبدء من الصفر
يضيف هؤلاء أنّ “القاضي عبود مستعد أن يدافع عن أيّ اسم في التشكيلات لأنّه خضع لرقابته وتوقيعه. وفي حال إثبات سوء الخيار، يتحمّل المسؤولية وحده مع مجلس القضاء الأعلى”.
وملاحظات رئيس الجمهورية التي نامت بدورها في أدراج رئاسة الحكومة كونها غير ملزمة لأحد، فإن مجلس القضاء الأعلى اعتبر نفسه غير معنيّ بها حيث اجتمع أعضاء المجلس ورسا القرار “على عدم الردّ على ما لم يصل إلينا”.
ويؤكد مطلعون أن مجلس القضاء الأعلى ليس بوارد التراجع عن تشكيلاته والبدء من الصفر. وتوقيع رئيس الجمهورية على المرسوم قد يتمّ من ضمن توافق سياسي ما مرتبط بملفات أخرى، خصوصاً أن عين المجتمع الدولي تنتظر حراكاً إيجابياً على مستوى السلطة القضائية. مع العلم أن تخرّج القضاة الجدد في آخر تشرين الأول المقبل سيعيد حكماً إحياء أزمة التشكيلات مجدّداً.
ولعلّ أبرز تداعيات فرملة التشكيلات القضائية، رفض رئيس الجمهورية استقبال رئيس مجلس القضاء الأعلى. في محيط الرئيس عون من اعتبر هذا التصرّف “مرجلة”، لكن مصادر قضائية توضح: “أخذ الريّس عبود قراراً بالصعود إلى بعبدا بعد صدور التشكيلات لتذكير رئيس الجمهورية بمضمون حديث بينهما أكد خلاله عبود أنه سيسعى لتكريس استقلالية القضاء، وبأن عون اختاره لأجل هذا الهدف”.
وتشير المصادر ردّاً على تجاهل عبود لرأي رئيس الجمهورية إلى أنّ “عون هو رئيس البلاد وله رمزيته. لكن التشكيلات هي من صنع مجلس القضاء الأعلى وصلاحيته، وحين خيّر الريّس عبود بين قناعاته من جهة ورمزية رئيس الجمهورية والعلاقة الشخصية معه اختار القانون وقناعته”، مؤكدة: “لو عدّل القاضي عبود في اسمين أو ثلاثة كانت “مشيت” التشكيلات ولم يحصل ما حصل. لكنه لا يساوم أبداً”.
ومن خسر في معركة التشكيلات؟ تقول المصادر “الطرفان خسرا. السلطة السياسية عبر إجهاض تجربة مستقلة لأول مرّة في تاريخ القضاء، ومجلس القضاء الأعلى بفرملة مشروعه في إطار الإصلاح القضائي ووضع القاضي المناسب في المكان المناسب”.
هكذا، وفي وقت أقرّ مجلس الوزراء يوم الثلاثاء الفائت التوزيعات الطائفية والمذهبية لأعضاء مجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان، بعدما سبقه وزير المال في تقديم لائحة التعيينات المالية وفق الإنتماءات الطائفية والسياسية، رَمَت وزيرة العدل ماري كلود نجم “ملاحظاتها” بوجه مجلس القضاء الأعلى معايرة إياه بعدم كسر “الطوق” الطائفي الملتفّ على عنق القضاء!
كانت تلك واحدة من ملاحظات وزيرة العدل على تشكيلات مجلس القضاء الأعلى لعرقلة مسارها والتي انتهت بعد حفلة “التنتيع” السياسي في أدراج رئيس الجمهورية رافضاً توقيعها!
“لو عدّل القاضي عبود في اسمين أو ثلاثة كانت “مشيت” التشكيلات ولم يحصل ما حصل. لكنه لا يساوم أبداً
وزيرة العدل تعاير مجلس القضاء الأعلى بالتزامه التقسيمات الطائفية في توزيعات القضاة، فيما يغرق مجلس الوزراء في تطييف تعيينات أسوأ ما فيها أنها لا تزال تراعي خواطر المرجعيات السياسية التي تزكّي أزلامها في هذه المواقع.
في المقابل تشهد الغالبية العظمى من قضاة لبنان ومن أهل الاختصاص والرأي العام بأنّ التشكيلات القضائية التي صدرت بإجماع مجلس القضاء الأعلى قبل خمسة أشهر خرجت للمرة الأولى من جلباب الزعامات و”أوامرهم” لينتقل قرار الحسم فيها إلى السلطة القضائية نفسها.
بالتأكيد هي ليست تشكيلات مثالية، لأن أيّ تشكيلات يستحيل أن ترضي كلّ الأطراف. لكن بالمقابل، كانت دليل “إثبات براءة” انتظره المجتمع الدولي بأن تُترك للقضاء وحده مهمّة تنقية ذاته وفصله عن التأثيرات السياسية. لكن السلطة السياسية فشلت في الاختبار، فتُرجمت التدخّلات بعمل مجلس القضاء الأعلى بشكل فاضح جعلت العين الدولية تحمرّ على سوء أداء هذه السلطة.