من المفترض أن يعود ملف مشروع قانون الكابيتال كونترول إلى طاولة لجنة المال والموازنة النيابيّة اليوم الإثنين، في مسار جديد يبدو أنّه سيحظى هذه المرّة ببركة رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، الذي ينتظر إنجازه في اللجنة قبل إحالته سريعاً إلى الهيئة العامّة. مع العلم أنّ تحفّظات برّي السابقة هي التي أفضت إلى سحب الصيغة السابقة منه عن طاولة مجلس الوزراء. التطوّرات المستجدّة، وعودة المشروع إلى بساط البحث وبشكل جدّي، لا يمكن فصلها اليوم عن عاملين: الدعاوى التي بدأت المصارف اللبنانيّة بمواجهتها في الخارج، والتي تستلزم وجود قانون يمثّل غطاء تشريعي لها في وجه هذه الدعاوى، ومحاولة لبنان إحياء مسار مفاوضاته مع صندوق النقد، الذي علّق بسلبيّة على تأخّر إقرار هذا القانون.
إقرأ أيضاً: التضخم والدولار 46,500: 10 تريليون ليرة لبنانية جديدة في الأسواق
ففي منتصف الشهر الماضي، وفي تطوّر خطير، واجهت ثلاث مصارف لبنان خاصّة هي BLC والإعتماد اللبناني وبنك الموارد، بالإضافة إلى مصرف لبنان نفسه، دعوى من قبل شخصين يحملان الجنسيّة الأميركيّة في محاكم نيويورك. تركّزت الدعوى على العطل والضرر الذي تسببت به المصارف اللبنانيّة باحتجازها أموال الودائع التي تعود لأصحاب الودائع، الذين طالبوا بتعويض عن العطل والضرر قيمته 150 مليون دولار أميركي.
خطورة الدعوى تأتي أوّلاً من كونها مرفوعة في المحاكم الأميركيّة نفسها، حيث يحتفظ مصرف لبنان بالغالبيّة الساحقة من سيولته المتبقية بالعملة الأجنبيّة، أي إحتياطي العملات الصعبة الذي تعتمد عليه البلاد اليوم لإستيراد السلع الحيويّة. كما تحتفظ المصارف اللبنانيّة نفسها هناك بما تبقى لديها من موجودات خارجيّة، وهي بغالبيّتها حسابات دائنة في المصارف المراسلة، وتعتمد المصارف اللبنانيّة على هذه السيولة اليوم لسداد التزاماتها في الخارج.
يملك صندوق النقد أولويّة أخرى، تتمثّل في ضرورة توحيد أسعار الصرف المتعددة التي يعتمدها النظام المالي اليوم
باختصار، وبغياب أي تشريع محلّي يمكن أن يبرّر إجراءات ضبط السيولة التي تقوم بها المصارف ومصرف لبنان، ثمّة مخاطر لا تنتهي يمكن أن تؤثّر على الوضع النقدي والمالي في البلاد ككل، وهو ضرر يتجاوز نطاقه مسألة المصارف التجاريّة وحدها. مع العلم أن رجل الأعمال الأردني المعروف طلال أبو غزالة أطلق دعوى مماثلة في المحاكم اللبنانيّة، لكنّه يستعد أيضاً إلى التوجّه إلى كل من البنك الدولي وصندوق النقد والمحاكم الأجنبيّة في محاولة لتحصيل وديعته.
صندوق النقد من ناحيته يملك أسباب أخرى للتركيز على مشروع القانون. في الجلسة الشهيرة بداية الشهر بين الوفد اللبناني ووفد الصندوق، والتي تخللها كلام قاسي من رئيس وفد صندوق إلى الوفد اللبناني، كان هناك سؤال واضح وصريح عن مصير مشروع قانون الكابيتال كونترول، وعن أسباب التأخّر في إقراره. بالنسبة إلى الصندوق، لا يمكن الإنطلاق في أي خطّة للمعالجة مع لبنان قبل قوننة إجراءات ضبط السيولة، للتأكّد من عدم وجود إستنسابيّة يسمح لبعض النافذين بتهريب دولاراتهم إلى الخارج، في الوقت الذي يطلب لبنان فيه قرضاً لتوفير العملة الصعبة للبلاد.
من ناحية أخرى، يملك صندوق النقد أولويّة أخرى، تتمثّل في ضرورة توحيد أسعار الصرف المتعددة التي يعتمدها النظام المالي اليوم. فسعر السوق السوداء بات خارج سيطرة مصرف لبنان، وهذه مسألة مفروغ منها اليوم. لكنّ تعدد أسعار الصرف المعتمدة لتوفير الدولار المدعوم لاستيراد السلع الغذائيّة، وسعر الصرف المعتمد للسحب من الودائع الدولاريّة بالليرة، وسعر الصرف الرسمي المعتمد لتمويل استيراد السلع الحيويّة (محروقات، قمح، ودواء)، كلّها تمثّل بالنسبة إلى الصندوق ظاهرة هجينة وغير مألوفة، وهي ظاهرة تفتح الأبواب أمام طرق عديدة للتلاعب وإساءة الإستخدام. وبالنسبة للصندوق، ثمّة ضرورة لإقرار قانون كابيتال كونترول يحتوي على آليّات لتوحيد أسعار الصرف هذه. مع العلم أنّ الصيغ السابقة لمشروع القانون لم تنطوِ على أي آليّة لمعالجة هذا الموضوع.
فرضت التطوّرات العودة إلى مشروع قانون الكابيتال كونترول، لكنّ على المودعين أن يراقبوا جيّداً تطوّرات هذا الملف، لمعرفة الآليّات الجديدة التي سينص عليها القانون
بحسب مصادر من داخل لجنة المال والموازنة، من المفترض أن تسير اللجنة بآليّة عمل شبيهة للآليّة التي اعتمدتها عند مناقشة ملف الخسائر. ولذلك، من المفترض أن تشهد الأيام المقبلة حركة اجتماعات مكثّفة بين اللجنة وممثلين عن كل من مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، بالإضافة إلى مناقشة ملاحظات صندوق النقد التي لم يؤخذ بها في صيغ مشروع القانون التي جرى طرحها سابقاً. مع العلم أن مصادر اللجنة نفسها تؤكّد أنّ رئيس المجلس النيابي، تخلّى عن تحفّظاته السابقة التي أدّت إلى سحب مشروع القانون عن طاولة الحكومة، وهو ما يعني أن الطريق ستكون معبّدة أمام مشروع القانون باتجاه الهيئة العامّة للمجلس.
فكرة مشروع قانون الكابيتال كونترول حلّت على طاولة مجلس الوزراء للمرّة الأولى في شهر آذار الماضي، بمسودّة قدّمها الوزير غازي وزني. لكنّ المسودّة كما بات معروفاً خضعت لقدر كبير من التعديلات من قبل الفريق الإستشاري الخاص برئيس الحكومة، بعد اجتماعات مطوّلة مع ممثلين عن المصارف ومصرف لبنان. وفي النتيجة، أطاح رئيس المجلس النيابي بهذا المسار برفعه الفيتو في وجه مشروع القانون، وهو ما أفضى إلى إعلان وزير الماليّة سحب المسودّة من النقاش داخل مجلس الوزراء “بسبب تحفّظ الجهة السياسيّة التي أنتمي إليها”، كما قال وزني داخل إجتماع مجلس الوزراء.
عمليّاً، فرضت التطوّرات العودة إلى مشروع قانون الكابيتال كونترول، لكنّ على المودعين أن يراقبوا جيّداً تطوّرات هذا الملف، لمعرفة الآليّات الجديدة التي سينص عليها القانون، والسؤال البديهي سيكون: هل ستهدف الآليّات إلى حماية المصارف اللبنانيّة وتلبية متطلّبات الصندوق فقط؟ أم ستنص على ما يمكن أن يحمي ما تبقى من حقوقهم؟ فحماية حقوق المودع تقضي وضع أفق زمني واضح لإجراءات ضبط السيولة، بالإضافة إلى آليّات رقابيّة تضمن للمودع التخلّص من أي شكل من أشكال الإستنسابيّة في التعامل المودعين. كما تقتضي وضع إجراءات تكفل تحديد سعر الصرف المعتمد لسحب الودائع الدولاريّة بالليرة بشكل منصف للمودعين، بدل أن يتم تحديدها من قبل المصارف دون وجود أي معيار واضح.