أحياناً تتكثف مجموعة معانٍ وتورياتٍ، وتتداخل أدوارٌ وتسميات، في مكان محدّد، أو في فكرةٍ ما، لتجعل منها رمزاً تختبئ وراءه مجموعةٌ بشريةٌ أو طائفةٌ أو حتى بلادٌ كاملة. كأن يصير بطلٌ رياضيٌ رمزاً لبلد، مثلما كان بيليه بالنسبة إلى البرازيليين، وقد أعطاهم كأس العالم لكرة القدم فاتحاً عهداً جديداً أمامهم، في نظرتهم إلى وطنهم وسعيهم إلى نهضة تحتاجُ إلى بطل. أو مثلما كان البوعزيزي رمزاً للمواطن العربي الفقير المُذَلّ المُهان، وإذ أَحرقَ جسده، سرت النيران في أنحاء العالم العربي وأحرقت ما أحرقت من حكامٍ وبلادٍ ومدنٍ… ولا تزال.
إقرأ أيضاً: القضية ليست “المالية”.. ابحثوا عن العقوبات
اليوم، صنعت الصدف من وزارة المالية في لبنان رمزاً لكبرياء الشيعة اللبنانيين، وارتبطت بدورهم، حتى باتوا، تحت ضغط التجييش الإعلامي والسياسي والمذهبي، يرون كراماتهم مربوطة بها. حتى إن الزميل عماد مرمل نقل عن “الثنائي الشيعي” تسميتها بـ”الحقيبة الميثاقية”. وهو اسم جديد لم نسمعه من قبل بل سمعنا عن حقائب سيادية وأخرى أساسية وغيرها عادية، لكن “ميثاقية”؟ هذه “مرّة أولى”.
لكن لنعد إلى خريطة لبنان بدلاً من خريطة مذاهبه، أليست المالية اليوم هي الوزارة الأهم لدراسة تاريخنا المالي والسياسي ومحاولة فرملة استقرارنا، والسعي لرسم مستقبلنا؟
من يظنّ أنّ برّي الذي بدأ حياته مقاوماً لإسرائيل، سينهي مسيرته السياسية مستسلماً أمام ديفيد شينكر؟
هي وزارة تعني اليوم مليوني مودع لبناني في مصارف لبنان، لهم عشرات مليارات الدولارات المحجوزة والتي تبخّر معظمها. كل لبناني معني بهوية وزير المال، ليس لتحديد السياسة المالية، ولا لتحديد مشروع مالي من هنا أو حصّة حكومية من هناك. بل كل فرد من اللبنانيين معني بشكل مباشر، لأنّ الذي سيدير هذه الوزارة، أو التي ستديرها، سيكون مسؤولاً عن أموالنا. ليس أموال الدولة، بل الأموال التي في جيوبنا، وجنى أعمارنا، وكل ألف دولار أو مليون ليرة محجوزة في المصارف، ستكون ملك يمين هذا الوزير.
في موازاة تحوّل وزارة المالية إلى وجهة جامعة لكل اهتمامات اللبنانيين، فإنّ محاسن الصدف كانت تعمل لتجعلها رمزاً شيعياً يصعب معه أن يتنازل حزب الله وحركة أمل عنها لصالح أيّ طرف آخر.
فالقيّمون على قيادة الطائفة الشيعية باتوا يقولون علناً إنّ الشيعة مغبونون في حصتهم داخل السلطة التنفيذية، وإنّ مساهمتهم في تحرير لبنان عام 2000 وفي حمايته من “خطر الإرهاب” الآتي من سوريا بعد العام 2011، بحسب الرواية الشيعية الرسمية، إضافة إلى عددهم الذي يوازي عدد السنّة، يعطيهم الحقّ في أن يكون لهم “ثلث معطّل” في كل حكومة. وهذا عرف انتزعوه في اتفاق الدوحة القطري بعد احتلالهم بيروت والجبل في العام 2008. ويعطيهم الحق بوزارة المالية، كتوقيع ثالث بعد التوقيعين الماروني، بيد رئيس الجمهورية، والسنّي بيد رئيس مجلس الوزراء.
وتقول الحكاية إنّ “الثنائي الشيعي” كان يمكن أن يترك وزارة المالية لاسم غير شيعي، لكن كفوء، لو لم تُفرض عقوبات أميركية قبل أيام، على صلة الوصل بين الحزب والحركة، النائب علي حسن خليل، المعاون السياسي للرئيس نبيه برّي. أما اليوم، فيبدو التنازل عنها ضرباً من ضروب الاستسلام أمام سيف العقوبات وتهديدات المعاقبين.
ومن يظنّ أنّ برّي الذي بدأ حياته مقاوماً لإسرائيل، سينهي مسيرته السياسية مستسلماً أمام ديفيد شينكر؟
لم يضعف الثنائي الشيعي الحاكم إلى هذه الدرجة بعد.
صحافيون قريبون من حزب الله كتبوا أمس مهدّدين “مصالح فرنسا” وليس فقط مبادرتها. وقالوا إنّ “وزراء الإستعمار” سيُعاملون “على أنّهم عملاء”، وأنّ “المالية هي قدس الأقداس”، وأنّ سقوط عرفها الشيعي سيعني سقوط أعراف الرئاسات الثلاثة وتعميم المداورة عليها وعلى مناصب الفئة الأولى، ليس ابتداءً بقائد الجيش وحاكم المصرف المركزي، وليس انتهاءً برئيس مجلس الإنماء والإعمار ورئيس مجلس القضاء الأعلى.
نحن اليوم نشهد تأسيس عرف “التوقيع الثالث” تحت ضغط تحدّي المجتمع الدولي كلّه. واللبنانيون وودائعهم ومستقبلهم الاقتصادي والمالي يقعون وسط معركة الملاكمة هذه
في هذه الأثناء، يصعب على القيادة الشيعية أن “تبلع” هذه “الإهانة”، من عقوبات وزير المال السابق علي حسن خليل، إلى عقوبة سحب وزارة المال من القيادة الشيعية. ويصعب على القيادة هذه أن تواجه جمهورها باستسلام من هذا النوع، بلا أي مقابل.
لسوء حظّ اللبنانيين، تكثفت رمزية “كرامة الشيعة” في هذه الوزارة.
ولسوء حظّ الشيعة أنّ كرامة كل لبنان باتت مرتبطة بهذه الوزارة. فأموالنا والتدقيق بمن سرقنا وأهدر ثروات اللبنانيين، ومستقبلنا المالي كله، يرتبط بهذه الحكومة وبوزير ماليتها.
ولا يبدو أنّ هناك حلاً معقولاً يلوح في الأفق، إلا ربما بأن يطرح الرئيس المكلف 3 أسماء شيعية، ليختار منها الرئيس برّي واحداً.. وإلاّ، فلا حكومة، ولو شنّ العالم كله حرباً سياسية على حزب الله وحركة أمل وحلفائهم. فقد يرفض النواب الشيعة الـ27 حضور جلسة الثقة. وقد يعاملها المعنيون معاملة “عملاء الاستعمار”، مع ما في هذا التهديد من شبهة أمنية وثأرية.
نحن اليوم نشهد تأسيس عرف “التوقيع الثالث” تحت ضغط تحدّي المجتمع الدولي كلّه. واللبنانيون وودائعهم ومستقبلهم الاقتصادي والمالي يقعون وسط معركة الملاكمة هذه.
لبنان اليوم عالق كلّه في حقيبة المالية، التي هي وزارة اللبنانيين، وليست وزارة حركة أمل أو الشيعة أو 8 آذار، ولا وزارة “تكسير رأس” أحد.
وحدنا، نحن اللبنانيين، من تنكسر رؤوسنا، مثل الفخّار، كلما وقعت على صخور السياسيين أو وقعوا هم عليها.