بينما تستمرّ عمليات انتشال ضحايا انفجار بيروت الكارثي الذي تزامن مع مئوية وجع لدولة لبنان الكبير، هناك أشلاء اقتصادية أيضاً هي قيد الإحصاء، لمعرفة حجم الخسائر التي تسبّب بها انفجار المرفأ وتأثيراتها في الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعيشها لبنان بأبشع صورها منذ فترة.
لا أرقام واضحة لحجم الضرر الواقع في المرفأ والمناطق المحيطة حتى الساعة. ويؤكّد وزير الاقتصاد راوول نعمة أنّ تقييم الخسائر يحتاج لمزيد من الوقت، فحجم الأضرار الكبير يشكّل تحدّياً جديداً في القدرة على الإحصاء. وتقوم بهذه المهمّة لجنة الطوارئ بمساعدة وإشراف الجيش اللبناني: “الحكومة ستحاول تعويض كلّ الخسائر عبر مساعدة الدول الأجنبية والصديقة والمجتمع الدولي”.
إقرأ أيضاً: لغز العنبر رقم 12
وردّاً على سؤال “أساس” حول خطة وزارة الاقتصاد للنهوض ما بعد الكارثة وتوصياتها، يشير نعمة إلى أنّ الوزارة مغلقة حالياً بسبب أعمال التأهيل: “مش باقي ولا ورقة”، وإنّ كلّ الاحتمالات والتسهيلات ستكون مطروحة على طاولة مجلس الوزراء: “والأهم الآن الحصول على المساعدة ومن بعدها احتساب الكلفة”. وعن خطة صرف هذه المساعدات في مكانها الصحيح لاسيما بعد فقدان الثقة بالسلطة الحاكمة، يقول نعمة: “نحن في حالة طوارئ، وكلّ هذه الأمور تحصل بإشراف الجيش اللبناني. وهي المؤسسة الوحيدة التي لا تزال تحظى بثقة اللبنانيين”.
وتؤكّد مصادر لجنة الطوارئ لـ”أساس” أنه من المبكّر جدّاً الحديث عن أرقام للخسائر حتى ولو تقريبية. لكنّ محافظ بيروت القاضي مروان عبود قال إنّ قيمة الخسارة في المرفأ وحده تقدّر بـ15 مليار دولار، وفي البيوت السكنية في بيروت بـ5 مليارات دولار، وأنّ العائلات المهجّرة أو المتضرّرة تزيد عن 200 ألف، والمحالّ المتضرّرة بلغ عددها 60 ألفاً.
مصادر لجنة الطوارئ تعتبر أنّها “مجرّد أرقام ارتجالية ولا تستند إلى تقييم علمي” ويتجهون بالنصيحة للمحافظ “بترك الأرقام لأهلها”. وينطبق هذا الكلام على الأرقام الأخرى مجهولة المصدر، والتي تشير إلى خروج 4 مستشفيات عن الخدمة، وتضرّر 25 مستشفى و145 دار عبادة، وعن أنّ 40 % من مساحة مدينة بيروت متضرّرة. كلّها أرقام وتقديرات بلا أي سند إحصائي أو علمي.
تتخوف مصادر اقتصادية من أن يتبيّن بعد إزاحة الردم من محيط المرفأ والمناطق المحاذية، أن الأرضية غير صالحة حتى لإعادة الترميم
يصرّ محافظ بيروت على أرقامه، ويردّ عبر “أساس” على أهل الاختصاص بالقول: “لينشروا هم أرقاماً مختلفة إذاً… ولنرى التاريخ من سيكذّب”، وختم حديثه السريع: “يوماً من الأيام ستتذكرون ما قلت”.
يقسّم الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة الخسائر إلى مباشرة، يقدّرها تقريبياً بأكثر من 100 مليون دولار، وتتضمّن التعويضات على الضحايا والجرحى، والطبابة، والخسائر في البنى التحتية للمرفأ، الأهراءات، البضائع، والسلع، والشاحنات، والسيارات التي كانت موجودة، إذ إنّ المرفأ تدمّر بنسبة 80 %، بتقدير عجاقة.
أما الخسائر غير المباشرة، فتتضمّن الدمار الذي لحق بالوحدات السكنية والتجارية والسيارات في المناطق المحاذية للمرفأ، وفي المناطق الأبعد أيضاً التي شهدت أضراراً بالديكور والزجاج، بالإضافة لخسارة مداخيل العائدات الجمركية والـTVA والأكلاف الإضافية المترتّبة على تصدير البضائع أو استيرادها من مرافئ لبنان البعيدة عن بيروت، والتي لا بدّ أنها لن تكون قادرة على استيعاب الضغط الذي كان يتحمّله مرفأ بيروت الذي يشكل 70% من حجم التبادل التجاري للبنان مع الخارج، عدا عن ضرب السياحة. ويقدّر عجاقة هذه الخسائر “بعدّة مليارات” ويرفض تحديد سقف لها، ويؤكّد لـ”أساس” أنها بين 3 إلى 4 مليارات دولار، وهي في الوقت نفسه خسائر مفتوحة لأن عدم إعادة إعمار المرفأ وعودة الحياة إليه قبل نهاية العام تعني الحديث عن خسائر غير مباشرة تتجاوز الـ4 مليارات حتماً”.
تتخوف مصادر اقتصادية هنا من أن يتبيّن بعد إزاحة الردم من محيط المرفأ والمناطق المحاذية، أن الأرضية غير صالحة حتى لإعادة الترميم، في حال كانت الهزّة الأرضية التي حصلت ناجمة عن سلاح غير تقليدي، وعندها يكون الحديث مشروعاً عن خسائر تتجاوز عشرات مليارات الدولارات.
كبير الاقتصاديين في “مجموعة بنك بيبلوس” نسيب غبريل يؤكد بدوره أنّ الخسائر بالمليارات “لكن من المبكر بعد تحديدها بطريقة علمية”. فمنذ أول العام 2020، كانت التوقعات للحركة الاقتصادية بانكماش يقدّر بما بين 8 و10%. وفي آذار ونيسان مع جائحة كورونا، كانت التوقعات بانكماش يتراوح بين 14 إلى 15%. ووصل في تموز إلى 18%. أما اليوم بعد كارثة 4 آب، فلا سقف للانكماش الاقتصادي، والخسائر، والفرص الضائعة، والكلفة. والمؤكد أنها ستتجاوز الـ18% بكثير.
ستطول أزمة اللبنانيين المعيشية والاقتصادية إذاً على أنقاض انفجار بيروت، ويبدو أنّ الخسائر قريبة من 15 مليار دولار على الأقلّ
ويشدّد غبريل في حديثه لـ”أساس” على موضوع الثقة الذي يلعب دوراً أساسياً، كوننا نحتاجها جداً في مرحلة النهوض. وهي الثقة التي تبخّرت بالطبقة السياسية. وبحسب مؤشر :بنك بيبلوس” لثقة المستهلك في لبنان، فهي كانت في شهر آذار 2020 في أدنى مستوى لها منذ 7 سنوات. وفي نيسان تراجعت إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق. وسجّلت في أيار والنصف الثاني من العام 2020 مستويات قياسية منخفضة أكثر وأكثر”. وعليه، كانت الثقة معدومة. وهي اليوم، “بعد انفجار المرفأ تحوّلت إلى غضب وحقد” ما سيرتّب تحدّيات أكبر وأكبر على الاقتصاد اللبناني، لا سيما أننا كنا أمام مجموعة من الأزمات المالية، والانكماش الاقتصادي، والأزمة النقدية وشحّ السيولة وجائحة كورونا… ما يعني أنّ الكلفة اليوم غير منظورة برأي غبريل وتحتاج لطريقة معالجة مختلفة.
يلخّص غبريل طرق المعالجة للأزمة بنقاط أربعة أساسية:
أولاً، الذهاب إلى لامركزية في إنتاج الطاقة، وهناك قانون صدر بالعام 2014 في مجلس النواب يسمح للمؤسسات الخاصة بإنتاج الكهرباء. وتقدّمت إلى ذلك أكثر من مؤسسة ولم يحصلوا على التصاريح حتى اليوم.
ثانياً، إلغاء أيّ ضرائب دخل ورسوم على الشركات ومؤسسات القطاع الخاص المنكوبة وغير المنكوبة للعام 2020 و2021.
ثالثا، تغيير وتعديل خطة الإنقاذ المالي، التي قدّمتها الحكومة إلى صندوق النقد الدولي، وهي تعاقب الاقتصاد اللبناني، وتنطلق من مقاربة خاطئة “إذ لا يمكن تحميل المواطن اللبناني والمودع تحديداً كلفة الأزمة بينما القطاع العام لا يتحمّل أيّ مسؤولية وهو السبب الأساسي بالأزمة”.
رابعا، ترك الخصومات والتوجه نحو طلب التأهيلات المالية المخصّصة للترميم وإعادة الإعمار، وقروض ميسّرة وسلف، لاسيما لاستيراد المواد التي نحتاجها في مرحلة إعادة الإعمار، وتسهيلات مالية من صناديق إنمائية.
ويتمنى غبريل في ختام حديثه أن “تحلّ الدولة عن القطاع الخاص”، فهو قادر على أن يقوم بنفسه ويبني ويعمّر وينعش الاقتصاد “لكن لتتوقف أولاً عن معاقبته، ووضع العوائق أمام المؤسسات”.
ستطول أزمة اللبنانيين المعيشية والاقتصادية إذاً على أنقاض انفجار بيروت، ويبدو أنّ الخسائر قريبة من 15 مليار دولار على الأقلّ، أي أكثر مما كان لبنان ينتظره من مؤتمر “سيدر”.