في عهد “حزب الله” الذي بدأ في الواحد والثلاثين من تشرين الأوّل 2016، تودّع بعلبك لبنان… ولبنان يودّع بعلبك. هذا لا يعني أنّ بعلبك صارت خارج لبنان. هذا لن يحدث. هذا يعني أنّ بعلبك التي كانت رمزاً من رموز الفرح في لبنان، صارت مدينة من الماضي، تماماً مثل لبنان الذي عرفناه.
كانت حفلة الخامس من تموز الجاري في بعلبك بمثابة سدل للستار على حقبة من تاريخ لبنان. لم تكن مهرجانات بعلبك بنسخة 2020، سوى تكريس لطيّ صفحة لبنان الجميل الذي كان قبلة العرب والأجانب. أذكر تماماً، أنّ عمّة والدتي، واسمها جليلة معلوف، كانت تأتي من مدينة لوس أنجلس الأميركية إلى لبنان من أجل حضور أم كلثوم في بعلبك. كانت الرحلة طويلة، وكانت عمّة والدتي في سنّ متقدّمة، لكنها كانت تقول إن ليس في استطاعتها تفويت فرصة مشاهدة “كوكب الشرق” تغنّي في “مدينة الشمس”. كانت الرائعة أم كلثوم تتفوّق على نفسها في بعلبك.
إقرأ أيضاً: مهرجانات بعلبك تقاوم ثقافياً: “صوت الصمود” سيصدح في 5 تموز من معبد باخوس
يظهر بوضوح في أيّامنا هذه أنّ هناك ولادة للبنان جديد لا علاقة بذلك الذي عرفناه. كانت مهرجانات بعلبك والمدينة نفسها حصناً من حصون الدفاع عن لبنان الجميل.
لم يكن وباء كورونا السبب الوحيد لغياب الجمهور عن بعلبك في صيف السنة 2020. هناك ما هو أبعد من ذلك بكثير، هناك ابتعاد للبنانيين، أو على الأصحّ، هناك إبعاد لهم عن ثقافة الحياة والفرح والانفتاح على كلّ ما هو حضاري في هذا العالم، بما في ذلك ما مثّلته بعلبك وما رمزت إليه… من أمّ كلثوم التي غنّت فيها في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، إلى مايلز ديفيس وإيلّا فيتزجيرالد وجون بايز، إلى كلّ ما هناك من أسماء عالمية مرتبطة بالمسرح وموسيقى الجاز وفرق الباليه… إلى الليالي اللبنانية، أي الرحابنة وفيروز وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين وكثيرين آخرين ساهموا في صنع الصورة المشرقة للبنان في مرحلة ما قبل السقوط الكبير.
في بعلبك، انتصرت ثقافة الموت. من مدينة كانت مؤهّلة لأن تصبح المدينة الأهمّ على الخريطة السياحية للمنطقة
كان السقوط على مرحلتين. مرحلة حرب 1975، ومرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري في 2005، وهي مرحلة بدأت تظهر معالمها اليوم، إن عبر ما تشهده بعلبك أو عبر ما يشهده لبنان بكامله، من انهيار. إنّنا أمام لبنان المعزول عن محيطه العربي وعن العالم بفضل انتصارات “حزب الله” المتكرّرة، والتي هي انتصارات على لبنان واللبنانيين وعلى مدينة مثل بعلبك في نهاية المطاف.
في وداع لبنان، من بعلبك نفسها، بكى لبنانيون كثيرون على بلدهم. تذكّروا ما كان عليه لبنان وما يجب أن يكون. تختزل مأساة المدينة، قبل مأساة مهرجانات بعلبك، ما آل اليه البلد والنهاية التي لا يستحقّها. فقبل موت مهرجانات بعلبك. ماتت بعلبك نفسها التي فيها مدينة رومانية تمثّل آثارها موقعاً سياحياً، كان يمكن أن يجلب سنوياً مليارات الدولارات على لبنان، قبل موسم المهرجانات وبعده وخلاله.
بدل أن تكون بعلبك وجهة سياحية دولية، استطاعت سلطة الأمر الواقع تحويلها إلى مدينة كئيبة لا مكان فيها للحياة.
في بعلبك، انتصرت ثقافة الموت. من مدينة كانت مؤهّلة لأن تصبح المدينة الأهمّ على الخريطة السياحية للمنطقة. صارت بعلبك مدينة بائسة لا مكان فيها لأيّ نشاط ثقافي أو فنّي حقيقي. ليس صدفة أن تلفزيون “المنار” التابع لـ”حزب الله” تفرّد بمقاطعة نقل الحفلة الموسيقية التي أقيمت من دون جمهور قبل أيّام قليلة من أجل التذكير بمهرجانات بعلبك. حتّى محطة “otv” التابعة لـ”التيّار الوطني الحر”، التابع بدوره لـ”حزب الله”، خجلت من مقاطعة الحفلة التي أقيمت في بعلبك، وهي حفلة لم تستعد تاريخ المدينة فحسب، بل استعادت أيضاً تاريخ مهرجاناتها التي بدأت في العام 1956 في عهد الرئيس كميل شمعون… في عزّ أيّام المارونية السياسية!
عمر مهرجانات بعلبك 64 عاماً. في العام 1956، لم يكن في المنطقة كلّها شبيه بمهرجانات بعلبك. صارت المهرجانات جزءاً من الماضي. صار السؤال هل في الإمكان إنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان؟ هل بقي شيء من لبنان يمكن إنقاذه بعد تلك الهجمة الشرسة التي يتعرّض لها والتي لا تستهدف اقتصاده فحسب، بل أسلوب الحياة فيه والنظام التعليمي أيضاً؟
معروف من جنى على بعلبك. إنّهم المنادون بثقافة الموت، وبمنع أيّ عربي أو أجنبي من المجيء إلى لبنان
من أجل أن يعي اللبنانيون حجم الضرر الذي لحق ببلدهم بسبب سيطرة “حزب الله” وتوابعه على البلد، بما في ذلك على بعلبك، يكفي التذكير بالتاريخ الحديث للمدينة ليس بعيداً عن آثارها ومعابدها الرومانية وأعمدتها الستّة.
أصرّ القيصر الألماني غليوم (فيلهالم) في العام 1898 على رؤية أدراج بعلبك في جولته على الدولة العثمانية. نزل في فندق “بالميرا” الذي لا يزال حيّاً يرزق بفضل أبناء الرئيس حسين الحسيني، أطال الله عمره. نادراً ما توجد شخصية عالمية زارت لبنان في مرحلة ما قبل 1975، إلّا وزارت بعلبك المدينة الواقعة في سهل البقاع والتي تحيط بها الجبال، تماماً كما حال مراكش في المغرب. تكفي مقارنة بما هي عليه مراكش الآن، حيث يطمح كلّ أوروبي صاحب ثروة في امتلاك منزل هناك، وما هي عليه بعلبك اليوم، للتأكد من حجم الفاجعة التي حلّت بالمدينة وأهلها.
معروف من جنى على بعلبك. إنّهم المنادون بثقافة الموت، وبمنع أيّ عربي أو أجنبي من المجيء إلى لبنان. لم تصمد بعلبك. كانت الحفلة الموسيقية الأخيرة فيها حفلة الوداع… وداع يترافق مع وداع ثقافة الحياة للبنان للأسف الشديد. هل هذا ما دفع لجنة مهرجانات بعلبك إلى إطلاق تسمية “صوت الصمود” على الحفلة الأخيرة؟
إنّه صمود لمدينة عريقة، ولبلد بات مستقبله في مهبّ الريح….