في بؤس واضمحلال المشهد الراهن لساحة عبد الحميد كرامي ثمّة ما يفتح الشهية لتناول “الغرافيتي” والأغنيات التي ولدت أيام “عزّ” الانتفاضة. قد يكون هروباً إلى الوراء، ولكنه في أيّ حال مشهد ثقافي غنيّ وممتع في أدبياته. وينطلق من فرضية أنّ إسلام طرابلس ولهجتها الخاصة، وهما عنصران ساهما طويلاً في وسمها وتشكيل صورتها الانعزالية – تفعّلا في انتفاضة تشرين. وعلى عكس السابق، صنعا أدبية جمّلت طرابلس، وأعادت ضمّها إلى لبنان.
إقرأ أيضاً: مئوية لبنان الكبير… جوع “نوعي” لا “كمّي”.. والنتيجة هجرة وانتحار
تأثير الاسلام
الغرافيتي قابل لدراسة يقترحها الألسني فرديناند دي سوسير، وتنطوي في حيّز مهمّ على الدال والمدلول أو بتعبير أبسط على شكل الغرافيتي ومضمونه. بدايةً فإنّ اللجوء إلى الغرافيتي كأداة تعبير على واجهة مبنى الغندور ومحيطه، تزامن مع ألوان “ملتزمة” كانت أمطرت على جدران من شوارع الخرطوم ومؤخراً في النجف والجزائر، في سياق ما سمّاه عديدون “الموجة الثانية” للربيع العربي الذي تنتمي طرابلس إلى قطره وتأثّرت به.
هذا في الشكل. أما في مضمون الرسائل، فقد أعادت طرابلس تأكيد نفسها وغيرها بلبنانيتها. لبنان وطرابلس ضمناً تأثّر بشكل عام بأدبيات الربيع العربي في عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام” التي راجت عام 2011. وأعادت طرابلس تبنّيها بشكل لافت. وتبنّت طرابلس كبقية المناطق شعارات لبنانية في “كلن يعني كلن”، “يسقط حكم المصرف”، “ضدّ الفساد”، “لا للطائفية لا للعنصرية” ودوّنتها على جدرانها. واللافت أنّها لم تُعجب كثيراً بشتيمة “الهيلا هو”، ربما لأسباب دينية أو أخلاقية أو اجتماعية.
لكنّ غرافيتي الثورة نفسه وتحديداً “الكاليغرافيتي، “ينضح بهوية إسلامية تميّز أدبيات طرابلس
لكنّ غرافيتي الثورة نفسه وتحديداً “الكاليغرافيتي، “ينضح بهوية إسلامية تميّز أدبيات طرابلس. وهي نفسها تطالب بعلمانية لبنان الدولة وتستقبل برحابة كلّ مواطن مسلم وغير مسلم. فمثلاً عبارة “طرابلس جنة لبنان” على مبنى الغندور تنضح بتصور ديني في كلمة “جنة”. أما “أُدخلوها بسلام آمنين” فهي ترحيب بكلّ داخل ووعد تقطعه طرابلس بالسلم والأمن بدون قيد أو شرط. وهي أيضاً تعبير إسلامي ورد في القرآن الكريم في الآية 46 من سورة الحجر. لقد حطّت هذه العبارة على المبنى الذي اتشح بالعلم اللبناني فمنحها خلفية وطنية ملوّنة، بعدما كان المبنى رمادياً مغلق المنافذ يوحي بكتلة بكماء وموقف ضبابي من سرديات ساحة “عبد الحميد كرامي”. خصوصاً أنها رُسمت قبالة عبارة “قلعة المسلمين طرابلس” التي تذيّل لفظ الجلالة “الله”. وبين العبارتين ضدّية واضحة. الأولى ترحّب وتطمئن بسلام وأمن المدينة، والثانية وضعتها “حركة التوحيد الاسلامي”، توحي ربما بإقصاء غير المسلم، أو أفضل الظنّ تأخذ حذرها منه ملوّحة بمناعة الاسلام الذي شيّد “قلعته” في طرابلس.
محمد الأبرش الذي رسم هذا الغرافيتي هو شاب من منطقة التبانة، درس العمارة ولا يتبنّى موقف ديني من الانتفاضة. كان أخبرنا في دردشة حازماً: “لست متديّناً ولا ملحداً. لا أؤيد حركة التوحيد، ولا أنا ضدّها. وما شيّدَته في الساحة لا يعنيني. الغرافيتي عبّر عن موقفي كمواطن وفنان”. وهذا توضيح بأنّ إسلام الأبرش في لغته ليس الغاية. لقد شكّلها اللسان الجماعي لبيئته. إنّه المجال المعرفي الذي راكمته طرابلس في لاوعيها منذ قرون خلت، ونكّهته بلغتها في كلّ شأن. الغرافيتي هنا تناصّ بين لغة الإسلام ولغة لبنان. طرابلس كمدينة إسلامية أقدم من لبنان كدولة. وحين عبّرت طرابلس عن التزامها الوطني، أنتجت لغة متأثرة بالاسلام. نمط الأبرش هو لسانها الأصيل والذي يلفظ (أي لا يتقبّل) سلبطات الحركات الاسلامية الطارئة على طرابلس، والتي ظلمتها وتغتال حُسن نيّاتها كلّ يوم.
طرابلس كمدينة إسلامية أقدم من لبنان كدولة. وحين عبّرت طرابلس عن التزامها الوطني، أنتجت لغة متأثرة بالاسلام
“يا كبير يا طروبلسي”
الخصوصية عينها تنسحب على الأغنيات. لقد ألهب “دي جاي” الثورة مهدي كريمة الساحة بـ”كومبو” أغانٍ وطنية، وتفاعل المتظاهرون في طرابلس مع “بيلا تشاو” التي وجّهت لفاشية القرن العشرين، ورقصوا على أنغام Baby Shark، ومنهم من صرخ “لا” في أغنية الفنّان الطرابلسي ابراهيم الأحمد “اعطوني فرصة”. وهي مشاهد مشتركة بين طرابلس وكلّ ساحات الانتفاضة.
في هذا المجال أيضاً اخترعت طرابلس أدبيات ميّزتها اللهجة المحلية. فكثيراً ما كانت اللهجة الطرابلسية محط ازدراء أو سخرية. الفنّان تميم عبدو قلب الطاولة على هذا الموقف المسيء للهجة التي تشتهر بتكوير الواو – ويفشل بالمناسبة كثيرون في تقليدها، فيعمدون إلى كسر اللام في “طرابلس” فيقولون “طروبلِس”، وهي في الحقيقة “طروبلوس”. ذهب تميم في هذه الكاريكاتورية إلى أقصاها معتدّاً بها، كأن يقول “أنا فخور بما تسخرون منه”. وهذا كفيل بشَكْم (إسكات) السخرية، بل بتحويلها إلى إعجاب، فشكّلت أغنيته “طروبلسي يا كبير” أدبية محكيّة تنقل صرخة الثوار وهتافهم. ثم راح يتنقّل بأغنيته مع عشرات الشباب أمام بيوت المسؤولين حاملاً الميغافون، وهو يهتف لهم “معلّمي” بصوت جهوري مضخّم نسمعه في الحواري الطرابلسية… ثم يأتي التقريع بعد هذا الاحترام “إنتا فاسد على علمي؟”.
صوت تميم مدّ وتر “صنع في طرابلس” لانتفاضة كلّ لبنان. صوت أصيل لـ”عروس الثورة” المتمرّدة والجميلة. غرافيتي الأبرش وغناء عبدو هما نموذج عن أدبيات تعكس الثقافة الإسلامية وخفّة ظلّ المواطن الطرابلسي. هذا الإنتاج الثقافي هو أقلّ ما بقي لطرابلس من انتفاضتها وهو على الأغلب، أجمل ما حقّقته. أما خصوصية طرابلس في الثورات، فليست وليدة اليوم. المراقب لمشاركتها في معركة الاستقلال أو أزمة 1958، وحديثاً في انتفاضة تشرين، يفطن إلى أنّ المدينة احتفظت بأدبيات مميّزة لم تفقدها وهي تخوض أو تقود المنعطفات الوطنية. وطرابلس اليوم، إن أجهضت مشروعها اللبناني أو ظلمها هذا الأخير، تبقى لها روحها المعلّقة على جدران الساحة وفي حناجر من أرادوا إنصافها في ميزان لبنان جديد، الذي سيُبصر النور في أجل غير مسمّى، لكن وثّقته أدبيات طرابلس التي امتلكت شرف المحاولة.
[VIDEO]