انتقادات مشروع سدّ بسري تركّز حتى الآن على الجوانب البيئية والجيولوجية، فيما يغيب في النقاش اعتبار لا يقلّ أهمية، يتعلّق بكيفية توزيع موارد المياه القليلة المتاحة.
يقوم مشروع سدّ بسري على خيار استراتيجي في توزيع الموارد المائية اللبنانية، يتمثّل بنقل مياه الليطاني من البقاع الغربي، بواسطة قناة، إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى ضواحي بيروت، لتوفير حاجاتها إلى المياه العذبة.
إقرأ أيضاً: سدّ بسري(1/2): التكلفة الهائلة تقارب تحلية مياه البحر
ما يجب أخذه في الاعتبار أنّ موارد المياه في الجنوب والبقاع محدودة، ولا بدّ من التساؤل إن كان من غير الوجيه اقتصادياً نقل أكثر من مئة مليون متر مكعب سنوياً من هاتين المنطقتين، من دون دراسة الحاجات الراهنة والمستقبلية لهما.
قد يتبادر إلى الذهن أنّ ضواحي بيروت أكثر حاجة للمياه، وهذا صحيح. لكنّ هذا يغفل مسائل أساسية:
1- اعتبارات الإنماء المتوازن: إذ ينبغي على الدولة أن تخطّط للتنمية الاقتصادية وتثبيت النموّ السكاني في الأطراف، لا أن تنقل كامل الموارد المائية من الأطراف إلى المدينة.
2- النمو السكاني: في مناطق الجنوب والبقاع الغربي، وما إذا كانت الموارد المائية هناك كافية لمواكبته بعد سنوات فقط، عندما يكتمل مشروع جرّ المياه إلى بيروت الكبرى.
3- حاجات الريّ: فالزراعة تستهلك حالياً 1000 مليون متر مكعب سنوياً من المياه، من أصل 2700 مليون متر مكعب هي مجمل المياه السطحية والجوفية المتجدّدة. وحتّى في حال رفع كفاءة الريّ إلى أقصى حدّ ممكن من خلال التنقيط، فإنّ حاجات الريّ ستظلّ تستهلك 600 مليون متر مكعب لريّ المساحات المزروعة حالياً. هذا على افتراض عدم زيادة هذه المساحات في المستقبل. هنا يكمن التساؤل عن معنى الجعجعة الحكومية في الحديث عن تعزيز القطاعات الإنتاجية، لاسيما الزراعة، خصوصاً وأنّ آلاف الهكتارات في البقاع الغربي والجنوب باتت أرضاً بوراً بسبب عدم توفّر مياه الريّ.
4- دراسة البدائل الممكنة: لتوفير المياه لبيروت الكبرى، سواء من الينابيع القريبة إلى شمال العاصمة، أو من المصادر غير التقليدية، مثل الينابيع العذبة تحت سطح البحر، أو حتّى تحلية المياه، التي انخفضت تكلفتها بشكل كبير في السنوات الماضية نتيجة التطوّر التكنولوجي.
الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه، التي قدّمها جبران باسيل حين كان وزيراً للطاقة في العام 2010، وأقرّها مجلس الوزراء في العام 2012، تلحظ إنشاء 27 سدّاً وبحيرة، وهي تتطابق إلى حدّ بعيد مع خطة السدود التي أعدّت في العام 2000، وهي تقوم على تقدير حجم المياه السطحية في لبنان بنحو 2200 مليون متر مكعب، (وهو تقدير قد يكون مبالغاً فيه بحسب تقديرات الخبراء). تقضي هذه الاستراتيجية بتوفير حاجات المركز السكاني الأكبر في بيروت وضواحيها من خلال جرّ 70 مليون متر مكعب من مياه سدّ جنة على نهر إبراهيم إلى بيروت، ونحو 105 ملايين متر مكعب من سدّ بسري إلى ضواحي بيروت الجنوبية وساحل الشوف. إلا أنها لا تعطي أولوية للتجمّعات السكانية المدينية الأخرى في طرابلس وصيدا وزحلة.
مشاريع سدود العاصي في الهرمل وقرقف والبارد في عكار وُضعت في الأدراج لتضيع فرصة ريّ 100 ألف دونم من الأراضي الزراعية
الإشكال الأكبر في مجمل الإدارة العونية لملف المياه لا يتوقّف عند الخيارات الاستراتيجية في المقاربة الوطنية الشاملة لإدارة الملفّ، بل يتعدّاه إلى إشكال سياسي في الأساس. فالمقاربة العونية تخضع لأجندة المصالح الانتخابية في تخصيص الإنفاق الحكومي على المشاريع.
فوزارة الطاقة كانت قد أرسلت إلى إدارة المناقصات عشرة سدود للتلزيم، قبل مجيء جبران باسيل إلى الوزارة، من ضمنها سدّ قرقف وسدّ البارد في قضاء عكار، وبحيرة العزونية في عاليه، وبحيرة معاصر الشوف، وسدّ العاصي (المرحلة الثانية) في الهرمل، وتأهيل بحيرة الكواشرة في عكار، وسدّ إبل السقي في منطقة مرجعيون على نهر الحاصباني.
وحين تسلّم باسيل الوزارة، قدّم الاستراتيجية المحدثة لقطاع المياه، ولحظ فيها إنشاء سدود بتكلفة ملياري دولار تقريباً حتّى العام 2020، توزّعت على الشكل التالي:
– 859 مليون دولار في جبل لبنان.
– 488 مليون دولار في الشمال.
– 300 مليون دولار في الجنوب.
– 328 مليون دولار في البقاع.
لكن على أرض الواقع حدث شيء آخر. ما فعله باسيل أنّه قلب أولويات السدود لتناسب مصالحه الانتخابية، فدفع بخمسة مشاريع سدود كبرى هي المسيلحة، وبلعا، وجنّة، وبقعاتا، وبسري. وهذا الأخير لم يكن ملحوظاً في الاستراتيجية. جميع هذه السدود تخدم مناطق ذات ثقل انتخابي عوني: المسيلحة وبلعا لقضاء البترون، وجنّة (جبيل وبيروت) وبقعاتا للمتن. أما بسري، فليس سرّاً أنّ الأساس فيه هو تزويد قضاء بعبدا بالمياه، وهو القضاء الذي يضمّ الضاحية الجنوبية ومناطق الثقل الانتخابي العوني من الحدث صعوداً إلى الحازمية وبعبدا والجمهور واللويزة.
اللافت أنّه حين تعالت الأصوات ضدّ حرمان مناطق الجنوب من مياه سدّ بسري، تحرّكت وزيرة الطاقة السابقة ندى بستاني لتطلب من مجلس الإنماء والإعمار ضمّ قرى جزين وشرق صيدا فقط إلى المناطق المستفيدة من السدّ، من دون صيدا والزهراني!
هل لحظ مشروع سدّ بسري الحاجات المستقبلية للمياه والريّ في الجنوب والبقاع الغربي؟
ثمة شواهد أكثر وضوحاً في الشمال على تسييس مشاريع المياه والافتئات على منطق الإنماء المتوازن. هناك، خصّص باسيل كلّ الموارد المالية لإنشاء سدّي المسيلحة وبلعا في قضاء البترون، الذي يسكنه واحد في المئة من سكان لبنان، بطاقة تخزينية للسدّين معاً تفوق ثمانية ملايين متر مكعب، فيما بقيت مناطق طرابلس وعكار والمنية والضنية والكورة وزغرتا، التي تحتضن أكثر من مليون نسمة، خارج خططه تماماً، باستثنناء استمرار العمل في سدّ بريصا المتعثّر الذي بدأ العمل به في العام 2003، إضافة إلى تأهيل بحيرة الكواشرة، وهي بحيرة متناهية الصغر أنشئت في السبعينات بطاقة 400 ألف متر مكعب، وتمّ تأهيلها في العام 2013، وهي لا تكفي لريّ أكثر من مئة هكتار.
قبل أن يتسلّمها باسيل في العام 2010، كانت وزارة الطاقة تعدّ لتلزيم مشروعي سدّ البارد، وسدّ قرقف في عكار، بطاقة تخزينية متحرّكة للسدّين معاً تقارب 115 مليون متر مكعب، أي ما يزيد على الطاقة التخزينية لسدّ بسري. وهذان السدّان يكفيان لريّ ما لا يقلّ عن سبعين ألف دونم من الأراضي. وضع التيار العوني هذين السدّين في الأدراج، ولم يحرّك فيهما ساكناً، فيما خصّص مئة مليون دولار لقضاء واحد، ميزته الواضحة أنّ المواطن جبران باسيل يخوض الانتخابات النيابية فيه!
في البقاع أيضاً، بقي مشروع سدّ العاصي الذي يفترض أن يخزّن 60 مليون متر مكعب، في الأدراج، مضيّعاً الفرصة لريّ ما بين 30 و40 ألف دونم من الأراضي الزراعية. ولم تقم وزارة الطاقة في العهد العوني بأيّ جهد لتأهيل مجرى الليطاني الذي تروى منه المزروعات في البقاعين الأوسط والغربي، أو لمعالجة التلوث في بحيرة القرعون.
وبدلاً من أن تفكّر وزارة الطاقة والمياه في إحياء مشروع نقل مياه بحيرة القرعون إلى قرى البقاع الغربي، حيث آلاف الدونمات غير المزروعة بسبب عدم توفر مياه الريّ، تذكّر باسيل وجود البحيرة الملوثة فقط حين احتاج لنقل مياهها إلى بسري، ومن بسري إلى الحازمية والحدث.
هكذا يكون الإنماء المتوازن!!