لقد تناسى البيارتة والطرابلسيون الزراعة منذ زمن طويل. فالتجارة أغوت أبناء المدينتين الللتين تغمسان أقدامهما على شاطئ البحر المتوسط. فلا مكان للزراعة في المدينتين، ولا للشجر، ولا للثمر، بل دكاكين وبسطات وأسواق على قاعدة “الله مبارك بالتجارة”. فقط “جزر” صغيرة، بين حرش بيروت، وحديقة الصنائع، وبعض الشرفات التي زرعها محبّو الورود هنا وهناك .
وهذا الهوى اللازراعيّ أذاق المدينتين سوء العذاب في محطات اقتصادية وعسكرية صعبة، فكانت المجاعة عبر التاريخ قاسية على المدينتين وناسهما من عام 1915، فبداية الحرب اللبنانية 1975، وصولاً إلى يومنا هذا حيث تلوح المجاعة مجدّداً أمام اللبنانيين.
إقرأ أيضاً: نسرُ المجاعة السودانية فوق برّادات لبنان
عادت الزراعة إلى تفكير أبناء بيروت وطرابلس. ولأنّ الأرض باتت ضيقة بعماراتها ومولاتها، فكان التفكير بأسطح الأبنية: لما لا؟ ففرنسا وعاصمتها باريس، كانت السبّاقة على مستوى العالم للزراعة.
رئيسة جمعية “سيدرز للعناية – Cedars for Care”، المهندسة الزراعية عفت إدريس، تحمل لواء الزراعة في المدينة وتحديداً زراعة الأسطح. وهي تشرح لـ”أساس” أهمية حصول هذا التحوّل باعتبار “الزراعة واحدة من أربع مهن موجودة في كلّ المجتمعات”. وتسأل: “لماذا يحرم البيروتي نفسه منها؟”.
برأيها أنّ البيارتة “تأخروا باللجوء إلى الزراعة في ظلّ هذه الظروف، والأزمة التي يعاني منها لبنان وتحديداً بالحديث عن المجاعة. لكن هناك الكثير من العوائق التي يجب حلّها قبل التفكير بأيّ شيء”.
عادت الزراعة إلى تفكير أبناء بيروت وطرابلس ولأنّ الأرض باتت ضيقة بعماراتها ومولاتها فكان التفكير بأسطح الأبنية
في بيروت، هناك نوعان من الزراعة. زراعة على الأرض والزراعة المائية. وميزة بيروت أنّها ساحلية، وقابلة لأن تُزرع “لكنّ المشكلة أنّه يجب أولاً التوقّف عن تسليط مياه الصرف الصحي على البحر، أو أن تتمّ الزراعة في الأماكن البعيدة”.
“من جهة أخرى، هناك أراضٍ تابعة للبلدية، وأسطح المنازل كلها باستطاعتنا زرعها. لكنّ العائق الوحيد هو التلوّث. ولا شيء يمنعنا في بيروت من اعتماد الزراعة العامودية. وهي طريقة حيث يتم زراعة النباتات والمحاصيل بعضها فوق بعضها البعض شرط أن يكون الهواء محمياَ من التلوث وبالشروط الأيكولوجية اللازمة”.
وتكشف أنّ كلّ شيء يمكن زرعه في بيروت، من الخضار والفواكه ما عدا البطاطا: “هناك أماكن واسعة كافية باستطاعتنا مثلاً إقامة مزارع دجاج فيها”.
ولدى سؤالها عن الجهات المختصة التي يمكن أن تقوم بدور أساسي ذكرت “الأوقاف”، التي يمكن أن تلعب دوراً أساسياً، إذ لديها العديد من الأراضي في الرملة البيضاء، والأوزاعي، والطريق الجديدة، والكرنتينا… بالإضافة إلى بلدية بيروت التي تمتلك أيضاً أراضٍ مهملة وإمكانيات مادية جيّدة. ولديها ما يقارب 700 عنصر في الحرس، لا يفعلون شيئاً لمدينة بيروت. وبإمكانهم أن يعملوا في هذا المشروع”.
وختمت قائلة: “ليس لدينا غير هذا المجال، كي نستطيع أن ننقذ أنفسنا من خطر المجاعة”. وتدعو إلى التوسع بهذا المشروع خارج بيروت: “بداية الطريق يكون من قبل البلدية التي عليها أن تبادر بزراعة الأراضي. وعلى هذا الأساس يبدأ العمل بدراسة كلّ أرض ووضع برنامج في أسرع وقت ممكن”.
بداية الطريق يكون من قبل البلدية التي عليها أن تبادر بزراعة الأراضي
أما المهندس الزراعي سامي فتفت، المسؤول عن ملف الأمن الغذائي في بلدية طرابلس، فاعتبر في حديث لـ”أساس” أنّ “المجتمع الطرابلسي لا يمكن أن يتحوّل بهذه السهولة إلى مزارع، لأنّ المواطن اليوم لا يستطيع أن يتحمّل تكاليف البذور والمواد والأسمدة”.
يروي أنّ “نصف سكان طرابلس أو أكثر من نصفهم أصلهم من القرى. هجروا أراضيهم ونزحوا إلى المدينة لأنّ الزراعة في لبنان ليست مربحة. لذا، يستحيل أن نؤمن اكتفاءً ذاتياً، لكن بلا شكّ يجب أن نبدأ العمل على الموضوع”، مضيفاً أنّ “الزراعة العامودية على الأسطح جيدة وتنتج للمواطن موارد لبيته، كما يُقال على ألسنة الناس (تنكة على البلكون بزرعها وبعيش من وراها). لكنها لا تكفي. فهي تحلّ مشكلة طارئة، وليس مشكلة مستدامة، لأنّها مكلفة وتحتاج إلى إمكانيات كبيرة جداً”.
ويتابع: “بلدية طرابلس والأوقاف والجمعيات الأهلية تلعب دوراً بتأمين جزء من الاكتفاء الذاتي لطرابلس. فعلى البلدية أن تدير بنفسها المشروع وتنسّق بين الأراضي الوقفية لتحديد ما يجب أن يُزرع في كلّ أرض (أرض لتربية المواشي، أرض للأعلاف..)”.
وانتقد فتفت الحصص الغذائية التي تمّ توزيعها بتكلفة 3 مليار ليرة لبنانية لأنّ هذه الأموال كان “يمكن استغلالها بطريقة أخرى أكثر أهمية وإنتاجية في المستقبل، وكانت كارثة، لكنّهم كانوا بحاجة لمشروع سريع وغير متعب”.
ويكشف عن مشروع يتم التحضير له في معرض طرابلس باسم “green house”: “10 آلاف متر ستزرع فيها بقوليات تحتوي على نسبة بروتينات عالية، والمجتمع الطرابلسي سيستفيد من إنتاجها الذي سيوزّع على عائلات محتاجة، بعدما تمّ التواصل مع إدارة المنطقة الاقتصادية الحرّة في المعرض. وهي قدمت هذه المساحة للعمل على هذا المشروع، الذي أيضاً سيؤمن فرص عمل للطاقات الشبابية العاطلة عن العمل”.
هكذا، وبعدما كنا نعيش أزمة تمدّن الريف يبدو أنّنا نتجه اليوم إلى ترييف المدينة. العودة الى الزراعة نوبة تصيب البيارتة والطرابلسيين لكن هل تنتج واقعاً زراعياً في مدينتنين لطالما ابتعدتا عن الزراعة والمزارعين؟