لا تلتقي الأجهزة الأمنية على معطيات موحّدة في شأن الدور التركي الأمني في شمال لبنان ودخوله المباشر على خط “تغذية الثورة”. هذا ما تشهده أقلّه مداولات المجلس الأعلى للدفاع والاجتماعات الأمنية في بعبدا.
لكن ثمّة أمر واقع يسلّم به كثيرون قائم على اعتبار أنّ الساحة الشمالية، وتحديداً طرابلس، هي ملعب جذب لرجب طيب أردوغان و”الإخوان المسلمين”، وأنّ “ورشة” الأتراك في البيئة السنية تتحرّك على أكثر من خط لبسط نفوذها.
إقرأ أيضاً: باسيل يُعلن الحرب على قائد الجيش (1/2)
رئيس الجمهورية ميشال عون كما جبران باسيل من المقتنعين بأنّ تركيا تتمدّد في الشمال وبصماتها واضحة في تحرّكات الثوار. مصادرهما تؤكد أنّ “هذا الكلام مبنيّ على وقائع”.
أعاد تكتل “لبنان القوي” إثارة الملف في اليوم التالي لحديث باسيل التلفزيوني. وإنّ حَصر المسألة “بتمدّد ببعد سياسي في شمال لبنان” بعدما كان باسيل جاهر بالبعد الأمني والمالي لهذا التمدّد. لكن الأهمّ في ذلك اعتبار باسيل أنّ ثّمة تواطؤاً من قبل قيادة الجيش وقيادة قوى الأمن في “تسهيل” هذا الدور، ليلاقيه نفي من وزارة الخارجية التركية.
باسيل انقلب، لحسابات ضيّقة، على تركيبة أمنية شكّلت القاعدة الأساسية التي استند اليها العهد ليجاهر بمعادلة الاستقرار
وفيما حيّد باسيل في مواقفه الأخيرة الأمن العام وأمن الدولة، فإنّ مصادر الأمن العام تؤكّد أنّ “اللواء عباس إبراهيم سبق وأثار موضوع الجمعيات المرتبطة بتركيا استناداً إلى وجود منتسبين لهذه الجمعيات يشاركون في أعمال الشغب التي حصلت في الفترة الماضية في بيروت وطرابلس. وقد تكلّم مباشرة مع المسؤولين الاتراك في القضية منعاً لأيّ استغلال”.
ووفق المصادر فإنّ “الجانب التركي وَعَد بالمعالجة في حال وجود خرق أو تستّر وراء هذه الجمعيات الخيرية للقيام بأعمال مخلّة بالأمن”.
وكان وزير الداخلية محمد فهمي قد حَسَم قبل أسابيع أنّ “هناك تدخلاً خارجياً”، مؤكداً “توقيف أربعة أشخاص كانوا على متن طائرة خاصة تركية من الجنسية التركية والسورية، ينقلون 4 ملايين دولار”، مشيراً إلى “تعليمات تصل من تركيا عبر الواتساب لبعض أطراف الحراك الشعبي”، دون التأكيد ما إذا كان هذا المال مصدره تركي. إذ أنّ هناك رواية أخرى تتحدث عن أنّ هذا المبلغ ليس الأوّل، وليس تركي المصدر بل جزء من النظام الصيرفي التركي وهو – أي المبلغ – مرسل لجهة حزبية لا علاقة لها بالدولة التركية.
لذلك عاد فهمي وتراجع قبل أيام عن أقواله بتأكيده أن “لا شبهة على الطائرة التركية وقد أطلق سراح الموقوفين”. مع ذلك، كان لافتاً تضمين بيان تكتل “لبنان القوي” إصراراً على معرفة “مصدر الأموال والمستفيدين منها وعلاقتها بأيّ عملية تسليح أو تطويع في الشمال”.
على خط قيادة الجيش لا يفسّر الأمر سوى “في إطار الهجوم السياسي بناء على معلومات سطحية ومضلّلة لا تعكس حقيقة الواقع”.
منذ الأشهر الأولى لبدء حراك 17 تشرين، ارتفعت وتيرة تحذير بعض الأجهزة الأمنية من دخول أطراف خارجية بينهم الأتراك على خط تغذية الثورة
ويبدو الأمر، بالنسبة لجهات أمنية، مشابهاً لما حصل في قبرشمون “حين أراد باسيل أن يكون لتلك الحادثة سيناريو يؤكّد نظرية الكمين المحكم من أجل استثماره في السياسة، فيما الوقائع الأمنية أثبتت عكس ذلك”.
وبلغة اكثر وضوحاً، تقول هذه الجهات إنّ “باسيل انقلب، لحسابات ضيّقة، على تركيبة أمنية شكّلت القاعدة الأساسية التي استند اليها العهد ليجاهر بمعادلة الاستقرار لجهة ملاحقة الشبكات الإرهابية أو الأمن الاستباقي، وفرض الأمن وسط الأعاصير السياسية التي تجتاح الداخل. وإذا كان واثقاً إلى هذا الحدّ من معطياته، فلماذا لا يكشف ما لديه؟ وإلّا فليكفّ عن توجيه رسائل داخلية وإقليمية. ويجدر السؤال هنا: هل لباسيل ممثّل شخصي على طاولة المجلس الأعلى للدفاع ينقل إليه محاضر الجلسات، أم أن محاضر المجلس السرّية هي ملكه الشخصي؟!”.
تشير مصادر عسكرية إلى “جهد استخباراتي للإحاطة بالدور التركي المحتمل تجلّى بالمتابعة الأمنية المستمرّة ورصد الحركة عبر الحدود، ومؤخراً من خلال الشكّ بالطائرة التركية التي نقلت في أول رحلة 5 ملايين دولار وفي الثانية أربعة ملايين دولار. وقاد مجرّد الشكّ إلى الملاحقة المباشرة بإشارة من مدّعي عام التمييز القاضي غسان عوديات خوفاً من أيّ تمويل لعمل تركي في لبنان. وتمّ استدعاء شركات صيرفة ليتبيّن لاحقاً أن لا شبهة عليهم، وأنّ عملية النقل قانونية”.
تؤكد المصادر أنّ “مديرية المخابرات عملت عن كثب على خط متابعة أيّ متورّط بأعمال الشغب، واحتمال تلقّيه إيعازاً من جهات خارجية. وليس هناك حماية لأيّ مرتكب أو ضغط لإطلاق سراحه”.
عملياً، ومنذ الأشهر الأولى لبدء حراك 17 تشرين، ارتفعت وتيرة تحذير بعض الأجهزة الأمنية من دخول أطراف خارجية بينهم الأتراك على خط تغذية الثورة ودعمها بالمال. وقد تكرّرت هذه التحذيرات في اجتماعات أمنية، خصوصاً بعد كلّ جولة من جولات العنف في المناطق.
ووصل الأمر إلى حدّ تحذير رئيس جهاز أمني محسوب على العهد من رصد معلّبات يتناولها الثوار هي صناعة تركية. وترافق ذلك مع تسريب معلومات في الأشهر الماضية منها تقرير عُرِض على قناة “الميادين” في حزيران الفائت “حول تورّط تركيا في تمويل أعمال التخريب الأخيرة في لبنان التي شارك فيها عرب ولبنانيون، حيث تمّ توقيف أكثر من 40 مشاركاً في هذه الأعمال”.
لكنّ مصدراً أمنياً بارزاً يؤكد لموقع “أساس” أنه “طوال الفترة الماضية، لم يتمّ التثبّت أمنياً من تلقي أيّ موقوف أو أحد المحرّكين أموالاً من الأتراك، إلى حين توقيف ركاب طائرة الـ4 ملايين دولار، إذ تبيّن بعد التحقيق معهم أنّ عملية شراء للذهب قد حصلت، ولا شبهة بعمل غير مشروع أو أمني. والشركة التي قيل إنّها وهمية هي شركة Offshore، وبالتالي لا قيد لها في السجلات اللبنانية، والدليل تراجع وزير الداخلية عمّا كان قد صرّح به”.
كذلك تفيد معلومات أمنية أنّه “بنتيجة تحقيقين كبيرين قامت بهما شعبة المعلومات مع موقوفين من الشمال والبقاع شاركوا في أعمال التخريب تبيّن أنّ من عَمَد إلى تنظيم التحرّكات، ومدّ المحتجّين بالمال والإيعاز إليهم للقيام بأعمال الشغب، هم من حزب سبعة، فيما تشاركت المنتديات التابعة لبهاء الحريري مع حزب سبعة في تنظيم تحرّكات ضدّ القرار الدولي 1559”.
تضيف المعلومات: “كان هناك 20 موقوفاً من البقاع، بينهم مسؤول مركزي في حزب سبعة هو ربيع الشمالي. وقد أوقفوا لمدّة ثمانية أيام رغم ضغط الشارع، إضافة إلى موقوفين من الشمال، حيث ظهرت مسؤولية الناشطة داليا الجبلي في تحريك المحتجين وتمّ التحقيق معها. وبعد إحالتهم جميعاً إلى القضاء، أُخلي سبيلهم لاحقاً. والنتيجة لا بصمات أمنية تركية في التظاهرات الأخيرة”.
ما بات مسلّماً به لدى غالبية الأجهزة الأمنية أنّ الدور التركي بالأساس، خصوصاً في الشمال، يعود إلى أكثر من عشر سنوات
وتبيّن أنّه في كلّ جلسات المجلس الأعلى للدفاع، تثار مسألة إخلاء سبيل من تثبت مسؤوليته في أعمال الشغب، أما جواب بعض القادة الأمنيين فهو: “اسألوا القضاء”!
والرصد الأمني لا يزال يركّز على “المنتديات” التابعة لبهاء الحريري ومحاولة تقصّي العلاقة مع الجانب التركي.
في هذا السياق، تفيد مصادر موثوقة أنّ “أمير أبو عديلة مستشار بهاء الحريري عاد مؤخراً من تركيا وبرفقته منسّق طرابلس في المنتدى نصر معماري حيث التقيا هناك نبيل الحلبي بحضور منسّق عكار أحمد طالب ومنسّق بيروت فادي غلاييني، وهم يعملون على تأسيس ما بات يعرف بـBahaa Aldeen Hariri Foundation، وباب التوظيف فتح فيها وهي تعنى بالمجال الخدماتي والاجتماعي”.
ما بات مسلّماً به لدى غالبية الأجهزة الأمنية أنّ الدور التركي بالأساس، خصوصاً في الشمال، يعود إلى أكثر من عشر سنوات عبر بوابة الجمعيات منها الجمعية الأبرز “تيكا”، والدعم القائم أصلاً لـ “الجماعية الاسلامية”، ومؤخراً عبر احتضان العديد من الرموز السلفية.
والعديد من المعنيين لا يزال يبني على زيارة أردوغان إلى عكار عام 2010، والاحتفال الشعبي الذي أقيم له في منطقة كواشرة العكارية، حيث تعيش أقلية ذات جذور تركية، والاستثمار المحتمل للنظام التركي في الأحزاب والتجمّعات المتماهية مع “الإخوان المسلمين”، الذي يتلاقى مع المال القطري في مواجهة النفوذ السعودي الإماراتي غير الفاعل هذه الأيام.