ما بين نشأته في قصر آل كرامي التاريخي العريق وبين حبّه الجمّ لأهل طرابلس الفقراء، بدأت حياة أحمد مصطفى كرامي في العام 1944 لتنتهي يوم السبت 4 تموز 2020، طاوية فصولاً من الحضور السياسي والإنساني الجميل، والنادر، في عالم السياسة الصاخب والهادر والمبنيّ على الصراعات والتنابذ والإزاحة، وحتّى الإلغاء في كثير من الأحيان.
تلقّى أحمد كرامي دروسه في مدرسة برمّانا العالية، ثم نال إجازة في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة بيروت العربية، وترأّس إدارة مرفأ طرابلس منذ سنة 1973 ولغاية 1990، عندما قدّم استقالته استعداداً لدخول المعترك السياسي.
إقرأ أيضاً: قلعة طرابلس تستعدّ لاستقبال أردوغان
بكلّ هدوء، اختطّ أحمد كرامي لنفسه مساره في عالم السياسة، رغم محاذير الخروج على عائلة كرامي التقليدية. فكان خروجه أنيقاً، وكان سلوكه احتوائياً، فلم يترك شروخاً ولا ندوباً، بل تموضع بهدوء وبدون صخب أو إثارة.
كانت علاقته بالشهيد رشيد كرامي وثيقة، ثم تعثّرت مع الرئيس عمر كرامي وازدادت الهوّة حتّى كان قرار الخروج الهادئ ليتّخذ موقعه في مشروع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ويُنتخب نائباً عن المقعد السني في طرابلس سنة 1996، لتشهد تلك المرحلة صفحة تعاون ووفاء مشهودٍ بين الرجلين.
كان خروجه أنيقاً، وكان سلوكه احتوائياً، فلم يترك شروخاً ولا ندوباً، بل تموضع بهدوء وبدون صخب أو إثارة
عام 2009 انتخب نائباً للمرّة الثانية متحالفاً مع الرئيس نجيب ميقاتي، ثم عُيِّن وزيراً للدولة في حكومة الرئيس ميقاتي في 13/6/2011.
خلال وجوده كوزير في حكومة الرئيس ميقاتي، كان رأس الحربة في الدفاع عن اللواء أشرف ريفي وعن اللواء الشهيد وسام الحسن، وكان موقفه هذا متقدّماً في مجلس الوزراء وخارجه، وكان يعمل على تحصين موقعهما بالنظر إلى ما كانت تعنيه إقالتهما في تلك المرحلة.
تولّى وزارة الأشغال بالوكالة فكان يسابق الوقت لتعويض طرابلس ما خسرته من سياسات التعطيل والتهميش، من دون الدخول في زواريب النزاعات الضيقة، ومن دون الانزلاق إلى التمييز السلبي تجاه سائر المناطق.
كان أحمد كرامي عروبيّ الانتماء والنزعة، وهذا ما ترجمه من خلال “حزب الشباب الوطني” الذي ترأسه وكان واجهة عمله السياسي والخدماتي، وضمّ رفاقه وفريق عمله الذي بقي إلى جانبه حتّى أيامه الأخيرة.
تميّز أحمد كرامي بأنه ابن عائلة كرامي التقليديّ المحافظ، وبأنّه الرجل الشعبيّ بطبيعته وطباعه بدون تكلّف. وكثيراً ما كان الناس يلتقونه في محلّ سمانة يشرب العصير، وفي مقاهي المدينة الشعبية يتنقل فيها، يتنفّس هواءها ويعيش يومياتها، بدون تكلّف. فلم يغيّر من عاداته قبل السياسة وبعدها، وبقي هاتفه وبيته مفتوحاً للجميع بدون مواعيد ولا حرّاس.. فكان أهل طرابلس يستذكرون شهيد طرابلس خليل عكاوي (أبو عربي)، حين يتحدّثون عنه، في انغماسه وتعاطفه مع الناس والتواصل معهم.
لم يغيّر من عاداته قبل السياسة وبعدها، وبقي هاتفه وبيته مفتوحاً للجميع بدون مواعيد ولا حرّاس
كما تميّز بأنه، على عكس كثيرين ممن انغمسوا في السياسة، بقي كفّه نظيفاً، ولم يتلوّث بإثراءٍ غير مشروع ولا بصرف نفوذٍ في غير مكانه. واحتفظ بهذه الشفافية حتّى آخر أيامه، فكان نموذجاً عزّ نظيره في جمهوريةٍ أكلها الفساد وساد فيها الفاسدون.
عاش أحمد كرامي في قصر العائلة التاريخي العريق، الذي بناه عبد الحميد، وكان آية في الأناقة والإبداع المعماري، فحافظ عليه وأعاد تأهيله ليصلح للسكن. وكان شغوفاً بالحديث عن مميزاته الهندسية والحضارية، كونه يمزج بين أنواعٍ عديدة من العمارة، ويزدحم بالكثير من القطع الفنية والتراثية، قسم كبير منها مصنوعٌ في طرابلس، المعروفة بصناعاتها الحرفية ذائعة الصيت.
أجمل ما كُتب في وداعه ما سطّره النائب والوزير السابق معين المرعبي حين قال: “رحمك الله أيها الصديق العزيز أحمد كرامي. عام 2014، وبفضل الله، أنقذ الصديق العزيز أحمد كرامي أبناء طرابلس وعكار المنية والضنية من الحصار وأعمال القنص.
كانت طرابلس محاصرةً بالقصف والقنص من جهة جبل محسن، وبمجرد تسلّمه آنذاك وزارة الأشغال (بالوكالة)، قام بتزفيت سكّة القطار، طريق البداوي البحرية من جسر الحديد إلى ما بعد شركة APEC، فأبعد المارّين عن مرمى القنص والقصف وفكّ الحصار المفروض. ولم يبالِ بالقوانين لجهة تزفيت سكّة القطار والتي اتخذها من سبقه حجّة للتمنّع عن إنقاذ حياة الناس.. جعل الله هذا العمل في ميزان حسناتك”.
سيكتب ويقال الكثير عن “أحمد أفندي”، حتى يحين دور قلم النقيب رشيد درباس، فيأخذ “الأفندي” الراحل حقّه.